مستقبل العراق المركزي..!
يتحدث الكثير, عن الفدرالية والوحدة كمفهومين متناقضين, ولعلنا ذكرنا هذا الأمر في هذا المقال؛ غير إننا قصدنا التشظي الحاصل بالمجتمع على أسس طائفية وقومية, ولم نقصد نبذ الوحدة. هناك إعتقاد مفاده: “إذا أردت النهوض بالبلد فيجب تقسيمه إلى شعوب تمثل مكوناته”. وفي هذا الرأي فهم خاطئ للفدرالية كنظام سياسي؛ فهي حالة إعادة بناء الدولة العراقية بطريقة عصرية, والوصول للإنسجام المجتمعي عن طريق بناء قاعدة صلبة وصولاً للقمة.
العراق المركزي, والذي يخضع لرؤية أحادية, يتعرض لحالة من الجحود به, فالدولة تفقد سيطرتها على مناطق واسعة, وتنسحب لمقرها, ولا تتحكم سوى بالمناطق التي يقطنها أبناء مكون صاحب السلطة!..فيما تبدو رياح الخارج أكثر تأثيراً على مقاطعات بات مزاجها مرتبطاً بما يحققه ذلك الخارج من إنجازات أو إخفاقات. أي إن البديهيات الوطنية أو الثوابت الوطنية لم تعد تتحكم بقواعد اللعبة السياسية والإجتماعية.
إستمرار البلد في السير على هذا السبيل -المجرّب- ينزع الإرادة الداخلية مهما كانت عازمة على تجاوز الأزمات, فتبقى تقلبات المناخ السياسي الأقليمي وعمقه الدولي, هي من تحدد ما يكون عليه البلد..وقد تأتي لحظة الإنهيار الكبرى؛ ليتحول العراق من دولة إلى مجموعة من القبائل والمجموعات التي يغزو بعضها الآخر, ولعل هذه الصورة متحققة في مناطق عدة, أو إنها موجودة على نطاق ضيق, لا شك إن الحكومة (أي حكومة) ستكون قائمة كديكور ليس أكثر.
ثمة حل يطرح في الاوساط الثقافية والسياسية, يقضي بتحكيم العلمانية وإبعاد النزعة الدينية -مهما بلغ إعتدالها- عن التأثر في الواقع السياسي, بإعتبارها ..هذا الطرح, ورغم ما يمثله من قيمة لا يمكن إغفالها غير إنه يصطدم بمجموعة من المعرقلات التي تقضي عليه في مهده, ومنها (تمثيل التيارات الدينية لإغلبية الشعب العراق, وركون الجماهير إلى معتقداتهم كحق مطلق) وبالتالي؛ فإن النظام الديمقراطي لن يسمح إلا بما آمنت به الناس, فشكل الحكومة, يصنع من الأسفل, ولا دور للنخبة, بيد إنها قادرة على تحريك الوعي, وهذا ما لم يتم, بل على العكس, نجد هناك تراجعاً كبيراً وتمسكاً بالهوية الثانوية على حساب الهوية الوطنية التي لم تعد واضحة.
إذن: المركزية, والعلمانية, لا تعبّران عن الوحدة؛ إنما الوحدة تتحقق بمصاديق أخرى, وقد تكون مغايرة أو متقاطعة مع المركزية الخانقة, وكمثال: فلو إن قضية مطالب المعتصمين في الأنبار حدثت في ظل حكومة محلية فدرالية, فلا يمكن أن تتحول إلى خطابات طائفية متشنجة لإنها (ببساطة) قضية داخلية بين أبناء مكون واحد ومنطقة واحدة. بالنتيجة ستبقى العلاقة بين الحكومة المركزية وشعب الأقليم (الأنبار) علاقة حميمة وسيكون المركز ملجئاً أخيراً بأعتباره يمثل سيادة الدولة.
الدولة المفقودة..!
الدولة, بإيجاز, تتكون من ثلاثةِ عناصر هي: (الشعب, والأرض, والسيادة أو السلطة)..هذه المكونات أو العناصر يجب أن تخضع لخصوصية جامعة, لتنتج الهوية الوطنية, والتي يشترك بها الجميع, وتكون بمثابة المظلة التي تخيّم على رؤوس القوم, مهما أختلفت مشاربهم؛ فيتشكّل خط أحمر, يُحظر عبوره أو تجاوزه, ومادونه يمارس الناس سنة الإختلاف بمساحة حرية تتيح للجميع إداء دوره الذي يعتقد به.
الشعب, والأرض, والسيادة, ثلاثية لا غنى عنها في مفهوم الدولة؛ فالشعب يشترك بحد أدنى من الهموم, والأرض لجميع الشعب, والسلطة ممثلة للشعب ومسؤولة عن جميع الأرض. هل هذه المعادلة قائمة في العراق بشكله الرسمي اليوم؟!
الإختلال واضح, ولا يحتاج تعمّق وتفحّص لكشف حقيقة الترابط بين تلك العناصر؛ فالتفكك علامة جلية, والأحداث السياسية, وتداعيتها الأمنية اليومية, خير مرجع لإثبات غياب الدولة أو شبحيتها في العراق..لذا, فبحث سبل وآليات بناء الدولة وإكتمالها أهم من الجلوس والتخطيط الغير مجدي لكسر شبح الطائفية والإقتتال والتمزيق, طالما هو موجود أصلاً!..فعندما تتشابك الخيوط, يجب البدء بحلحلتها أولاً, لمسك الطرف المؤدي لمسيرة صحيحة. تبدأ بالقضاء على أسباب الإنهيارات المتولّدة من التطرف, والتطرف -كما ذكرنا- تتشكّل بيئته بموجب هواجس سياسية.
القضاء على التطرف..
من الأسباب أعلاه, يتضح أن لا حل إلا بفدرلة الدولة العراقية, وبشيء من الصراحة, فلا مبرر للسكوت عن صراخات الشعب الطامح بشهرٍ هادئ..سيما إن الخصوصية العراقية, تيسّر الحل الفدرالي؛ فالمكونات العراقية تتمتع بمناطق جغرافية تسمح لها بتشكيل تلك الفدراليات. علماً إن الفدرالية جوهر دستوري مهم. سيوفر أسباب تطور الدولة العراقية والقضاء على الأزمات القائمة. حيث ستكون الأرضية السياسية متميزة بما يلي:
1- غياب فرصة الصوت الإنتهازي (جماعات وأفراد) والمتهم بصناعة الأزمة, حيث إن المساحة التي سيعمل بها, لا يشترك معه بها سوى أبناء مكونه, فلا تخوين ولا إثارة مخاوف, طالما “أهل مكة من يحكمها”.
2- أطراف محكومة من قبل أبنائها, ستؤدي لتقويتها نتيجة حاجتها لضبط أوضاعها, وهذا يأتي بمساعدة المركز الذي ساظل الأقاليم بحاجة إليه..ستأخذ تلك الأطراف مسؤولية مجابهة الجماعات المتطرفة, وللأنبار تجربة, حيث إن تنظيم القاعدة إنهار عند تأسيس قوة مقاتلة من أبناء العشائر.
3- عدم الأصطدام بين المركز والأطراف, طالما قويت سلطة تلك الأطراف بواسطة الصلاحيات الممنوحة لها, وبالتالي, ستكون حريصة على تنفيذ واجباتها على أكمل وجه, فالمنافسة ستكون شديدة ودون مؤثرات.
4- قوة الأطراف تنتج مركز قوي, غير منشغل بأمور ثانوية, وحتماً, سيتوجه للقضايا الفدرالية, كالتسليح, وملف العلاقات الخارجية, والسياسية المالية, والعامة…إلخ.
5- ترسيخ مبدأ الوحدة الوطنية, فالإنحلال الوطني, ناتج من تداخل الصلاحيات, والحس الطائفي المدعوم في أحيان كثيرة من الخارج, وبالفدرالية, ستقل فرص الخارج في التدخل لإعتبارات كثيرة, أهمها غياب أسباب التدخل.
الأحداث الأمنية والعسكرية, وصلت قمتها؛ المشهد أكثر وضوحاً..الركون لحلول الترقيع, والشعارات العاطفية, لا يمثّل إلا جرعة مخدرة لمرضٍ عضال..الخروج من الأزمة بإقلّ الخسائر واجب إنساني وأخلاقي, يقع على عاتق الجميع, فعلينا التفكير بعراق واحد فدرالي إتحادي, قبل سلك طريق اللاعودة.