23 ديسمبر، 2024 7:49 ص

صراع الأيديولوجيا ومفهوم “نريد وطن”

صراع الأيديولوجيا ومفهوم “نريد وطن”

قبل الانتخابات الاخيرة عام 2018 كتبت مقالا نشر في الصحافة والعديد من المواقع الالكترونية، تناولت فيه عملية الانتخابات داعيا الى العكوف عن المشاركة..ولماذا؟. واوضحت بأن مقاطعتها الشاملة ستجعل اركان الحكم سياسيا ودستوريا وقانونيا متهرية، اذا تمت مقاطعتها وكانت المشاركة متدنية، وهو ما كان متوقعا حسب استطلاع رأي المحللين والخبراء والمتخصصين في علم الاجتماع. عندئذ يكون القيام بنقض نتائجها امام المحافل الدولية المعنية ممكنا لعدم توفر الشرعية المجتمعية. مثال “شيلي” حينما ضغطت الامم المتحدة نتيجة الحملة العالمية ضد نظام “بينوشت” الفاشي الى اجراء انتخابات باشراف دولي تحت مظلة الامم المتحدة عام 1988، بعد 16 سنة على حكمه، فسقط وتمت محاكمته!.. وكان الكثير من وسائل الاعلام المحلية والعالمية تشير الى نفس الرأي، بيد ان هناك من كان يصعب عليه الفصل بين المواقف السياسية المنسجمة مع مصالح الاغلبية الرافضة للنظام الطائفي ـ والمراهنة على حسابات شكلية غير مضمونة لم ترتق الى مستوى التحدي الذي تمثله احزاب السلطة. النتائج جاءت مخيبة كما غير متوقعة للكثيرين من راهنوا، اذ أن نسبة المشاركة في عموم العراق لم تتجاوز الـ %20 مما جعل الجميع يلتقطون انفاسهم للخروج من المأزق أمام سطوة الصراع الذي كانت الاغلبية الصامتة تشكله. فكانت حصيلة تلك المواقف الديماغوغية بعد عام على تشكيل الحكومة العتيدة وانهيار كامل للدولة ومؤسساتها، أحداث اليمة وحمامات دم في عامة ساحات التظاهر.

بمشاركتها في الانتخابات وهي تعلم بأن أربع ركائز مفصلية لضمان نزاهة الانتخابات ومصداقيتها لم تتوفر، فلا يوجد قانون أحزاب ينظم احكامها ولا قانون انتخابات منصف، فيما المفوضية العليا للانتخابات غير نزيهة والدستور تشوبه الكثير من الالغام. انحرف العديد من الاحزاب المدنية التقليدية والتيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني “ديمقراطيين وشيوعيين ومستقلين” عن مسار نضالها الجمعي ضد الطغمة المتسلطة رغم كل النصائح التي اتت حتى من داخل صفوفها. ولم تستوعب خطر المضي مع فئة بربرية تمسك بالمال والسلاح والميليشيات والسلطة على مستقبلها السياسي. بيد انهم فضلوا المشاركة لاجل حفنة مكاسب رمزية اودت بسمعتهم وتاريخهم السياسي داخل المجتمع العراقي سيما بين الشباب الذين علمتهم الازمات والمعاناة على يد طغمة فاسدة على مدى ستة عشر عاما،ً فن السياسة والنضوج الفكري. حيث أفضى سلوكهم العدمي بالمعنى السياسي الى نوع من “الاختناق الفكري” الذي يقود الى عدم التطابق بين مفهوم طبيعة الصراع والظروف التي تعاني منها الطبقات المجتمعية المسحوقة، وبين الشروط “الموضوعية” التي لا تعني التجرد بقدر ما تعني عمليا ونظريا النظرة الشمولية، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي ريموند أرون Raymond Aron ـ وبذلك ارتكبوا خطئاً فادحاً يضاف الى الاخطاء السابقة.
سألني البعض لماذا تصر على مقاطعة الانتخابات، قلت بإختصار: الاغلبية من الطبقة الصامته المسحوقة في بلدنا ليس لها وطن.. فماذا تعني لهم الانتخابات وهم لا يحسون بتلك “الرعاية الابوية” ولا حتى بتفاصيل عضوية الناس والأشياء والكائنات الحية والتجريدات التي تقوم بمرور الوقت على صياغة الشعور بـ “الانتماء والهوية” الى غاية تشمل “الوطن” حتى يصبح مجسداً. ويفترض ان يكون للوطن دستور يحمي حقوق أبناء المجتمع ويضمن مستقبلهم، وكباقي الامم يكون له علم ونشيد وطني واحزاب سياسية نزيهة حريصة على بناء البلد وتطوره وضمان امن المواطن واستقراره. من هنا فان المقاطعة بعد كل هذه التجارب الانتخابية ووجود طغمة تعودت التزوير والكذب والتسويف والمماطلة، تشكل انعطافا سياسيا هاما يسقط حالة الشعور بـ “الاغتراب” في الوطن، وولادة ثقافة مجتمعية جديدة تنسجم مع رغبة المواطنين ونظرتهم لمستقبل بلادهم.

منذ بدء حراكهم الثوري في الاول من اكتوبر 2019 رفع آلاف المتظاهرين شعارات تندد بنظام الحكم وتدين انتهاكات السلطة وتمردها على المجتمع. لكن واحدا منها “نريد وطن” أصبح ايقونة التظاهر في جميع الساحات. أفرز سياقات استراتيجية وطنية قيمية جامعة، ووجه الصراع لانتزاع الوطن من الانهيار الكامل واعادته الى حيث ان يكون الشعب من جديد. ان اصرار المتظاهرين في عموم البلاد لان يكون شعار “نريد وطن” شعارا مركزيا حقق أمرين اساسيين: تعاطف الجماهير ورفع معنوياتها لانهاء هيمنة الاحزاب على الدولة والمجتمع وكسر حاجز الخوف وجدار الصمت. الامر الاخر، خلق حالة من الوعي والشعور بالمسؤولية لدى الجماهير لمواجهة الازمات السياسية والتراكمات الفكرية والفئوية التي ضختها المنظومة السياسية المافيوية داخل المجتمع. اتسمت بتحويل التناقضات من اطارها الضيق الى مظاهر وأساليب اكثر دلالة ورمزية. وتتفاعل فكريا وسلوكيا مع الواقع بعقلانية تنسجم فلسفيا وماديا مع طبيعة المجتمع وطموحاته. ومن جانب آخر “نريد وطن” اعاد انتاج الذات للفرد العراقي وجعل المقاربة لديه بين مفهوم “الدولة” و “الوطن” بوصفهما حاضنتان لكل الهويات حاضرة بين كل الاوساط والطوائف والاجيال العراقية.