منذ قبل الإسلام والعرب يتفاخرون بأداء الامانة الى اهلها وإجارة الدخيل و حفظ الكلمة وصون العهود ، وهذا مالاتفهمه ثقافات كثير من الأمم التي تعد نفسها متحضرة ، ويظن ابناء العرب الآن انها اعلى من أمتهم و ارقى ، و انا والله كلما صادفت افعالهم وتيقنت من نكرانهم لهذه القيم بل واستنكارها التصقت حنينا وفخرا بأمة العرب التي لم تدانها امة في الأخلاق وفي إنسانيات الحياة ،
فالعرب كانوا -ولازال كثير منهم- يفرقون انفسهم عن الحيوان بامور كثيرة لايدري عنها الغربيون ولا الشرقيون شيئا ، ويظنون انهم على خير ، فالعرب يرون ان الانسان اذا نقض عهده واخلف وعده وخان كلمته و اهمل امانته تساوى مع الحيوان و الطفل ، وصار برتبتهما ، يرتع ويلعب ولايهمه من امر القيم والخلق والعيب والالتزام شيء ،،
لذا فكنت دائما اغيظ اصدقائي من الاجانب باستفزازهم ان ليس لديكم من صفات الانسان الا اهتمامكم بالحيوان ، ولاغرو فانكم اشقاؤه ، أما نحن العرب فنفتخر بالوفاء ونحب الإجارة ونقدس الكلمة ونحفظ الوعد ونخجل من رد السائل والمحتاج ، ونتبارى في إكرام الضيف ، فكانوا يفشلون امامي في المحاورة وينكفئون عن المناورة ،
و والله ما كان ينغص علي كلامي هذا وانتصاراتي عليهم الا رجل من قدامى الاصدقاء ، عربي اصيل ظننته من نسل اجداده ،و هو حي يرزق وربما يقرا لي الان و قد صار اعلاميا مشهورا “بدعم مني طبعا في أول دربه مثل كل مبتدئ يحب الشيء ولا يعرف اسرار التمكن منه” ثم جرت الايام والسنين ونحن اخوة متحابين ، فعنّ لي شأن ومر بي ظرف الجأني -قهرا- الى ترك البلاد وهجر العباد ، وكان لي -كما كل احد- مقتنيات شخصية و امور مهمة مادية ، منها اعز ماكنت املكه من نفيس الذكريات و منها اهم مااستطعت حمله من بيتي في ايام النزوح القاسية من مسودات كتابات كنت اعدها للطباعة ككتاب ، على بعض من خاصة اشيائي واهمها ،
كنت حينها شمال الوطن فعزمت على السفر خارجه لعدم توافقي مع اخوتنا العنصريين في الشمال المقتطع -بعد ان حبسوني لأمر لايحاسب عليه الا “الأكراد” اخجل ان أقوله لانه مضحك لايصدّق ، فنفرت وحزمت حقائبي ، وقد امنت على حاجاتي انها ستكون بأيد امينة حيث صديقي القديم وكان مستقرا بعائلته -حفظهم الله- وكنت انا عازبا لا املك الا نفسي وربيبي ابن اخي ، فاستدعيت صاحبي وقدم وائتمنته على كل ذلك في حقيبتين و وضعت عليه امانة الله و وصيته كثيرا انها اهم ما املك وجزء من حياتي فقال اطمئن فشكرته وحضنته وقبلته ورحلت ،
و بعد سنة او سنتين وقد جاءت الاخبار ان الايرانيين أحرقوا منزلي في المدينة -أثناء حماية الارض والعرض- وحرقوا معه كل ماكتبت و عملت و درست ونقحت ونقدت لسنوات ، و.بعد ان رايت بعيني حر مصيبتي وعظمها فاسترجعت الله و طرحت مريضا في الفراش لشهور من اثر الصدمة وفجاعة الخسارة ، عدت الى صديقي لعلي استبرئ به من بعض جراحي فأنجد ماتبقى ، فهو املي الوحيد ، فبعد السلام والكلام ناشدته الامانة ،
قال : “انتقلت الى بيت جديد وتركتها في البيت القديم على مايبدو او لعل اهلي رموها في احدى حاويات الانقاض ” و انتهى بالنسبة اليه الامر وانقطع الحديث فمرضت من جديد ، فأي احفاد نحن لأولئك الامجاد ، و اين هذا من يهودي عربي كان اؤتمن على دروع وسلاح مات صاحبها وبعد سنين ابى ان يسلمها لغيره فهدد وحوصر بيته واسر ولده فخيّر بين قتل ولده او خفر امانته ، فقال اقتلوه ولا اخون امانتي فقتل ولده امامه ورجع الناس عنه ، فسلم الامانة لمستحقيها ، قال فيه شاعر لعله الاعشى:
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ،،،، في جحفل كقريع الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزلة ،،،، حصن حصين وجار غير غدار
فسامه خطتي خسف فقال له ،،،، مهما تقولن فإني سامع حار
فقال ثكل وغدر أنت بينهما ،،،،، فاختر فما فيها حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ،،،،، اقتل أسيرك إني مانع جاري
ونسخة من ذلك الى من لايعرف عن قيم اجداده العرب شيئا ، لعله ينتفع او يقتدي ، فان من اعظم الخلق اداء الامانة والحفاظ عليها.