19 ديسمبر، 2024 5:42 ص

اصل المقولة هو ما شاع على الالسن من ان فلان (شقي تارك!) اي انه كان فيما مضى شقياً ولعوباً ولكن الله تاب عليه فتاب وترك الشقاوة والنزوات. ولكن صديق لي يعجبه ان يصف نفسه بمتدين تارك! دلالة على انه فيما مضى كان متديناً بالمعنى العام ولكنه عدل عن ذلك واخذ يسير في طريق المعاصي او البعد عن العبادات والاوراد والاذكار التي كان مداوماً عليها في فترة شبابه ونشأته معتقداً انها من صلب الدين وانها تعكس مقدار علاقته بربه وقربه منه وان الزيادة فيها زيادة في المعرفة والتقرب والطاعة.
كثيرون هم من يتعرضون لنكسات وتحولات خطيرة من هذا النوع ولكن الاسباب تبقى نسبية وخاصة غيرعامة فلكل منهم قصته وظروفه التي غيرت افكاره بين ليلة وضحاها من اقصى اليمين الى اقصى اليسار ولما كانت ظاهرة كهذه تسبب ارباكاً في حركة المجتمع ككل وليس المتحول وحده وجب دراستها ومحاولة تشخيص اسبابها وكيفية التخفيف من تأثيراتها المدمرة على الفرد والمجتمع.
فائدة الدين
قبل الخوض في كيف ينشأ التدين عند البعض وكيف يتحولون عنه الى غيره لا بد من معرفة فائدة الدين ورغم كثرة ما قيل وسيقال عن هذا الامر الا ان كلمات مختصرة لحكماء الاسلام تختصر القول حيث قالوا: ان العقل كالبصر وان الدين (شرع الله) كالنور الذي يهدي صاحبه الى الطريق المستقيم فمن لا عقل له لا يرى شيئاً ومن لا دين له فلن ينفعه عقله وسيبقى يتخبط في ظلمات المعاصي ويظن انه يحسن صنعاً. هذا باختصار هو ما يدفع الناس الى الدين والتدين بمعناه الاعم وهو تطبيق الواجبات والانتهاء عن المحرمات والبحث عن المستحبات لفعلها زيادة في التقرب من الله والانتهاء عن المكروهات بعداً عما يكره الله تعالى لعبده وتجسيد كل هذه الامور في الاخلاق مع الله تعالى ومع النفس ومع الناس والطبيعة وكل من وما حول المعتنق للدين.
كيف ينشأ التدين؟
1- التدين بالتربية والتلقين: يختلف الناس من حيث منشأ التدين لديهم ولكن الاعم الاغلب يكتسبونه من اهليهم بالتلقين والتربية الدينية في الصغر فينشأ ملتزماً بما لقنه الاهل وهذا شيء طبيعي في ظل وجود اوامر الهية صريحة في وجوب تعليم الاطفال الصلاة والعبادات وترغيبهم في الدين وترهيبهم من المعاصي والاخلاق السيئة ووقايتهم من النار كما يقون انفسهم (قوا انفسكم واهليكم ناراً) بإرشادهم الى طريق الله بالدين والشرع الالهي. هؤلاء الناشئين على الدين واخلاقه وطبائعه والذين غالباً ما يسمون بنتائج البيئات المحافظة المتدينة الملتزمة يكونون بأعداد وكميات ونوعيات متفاوتة بين مجتمع واخر وعصر واخر ولكنهم في كل وقت موجودون ولهم ثقلهم في اشاعة روح الدين والايمان فيمن يحيطون بهم وهم في اغلب الاحيان يكونون سبباً في تدين الصنف الثاني القادم ذكره.
2- التدين متأخراً بشكل مفاجئ: الصنف الاخر من الناس الذين لا يلتزمون بالدين ولا يعتبرونه منهجاً للحياة بطبيعة الحال لا ينشئون اطفالاً متدينين لذا فأن اطفالهم لا ينشئون متدينين ولا يعرفون عن الدين سوى ما يسمعونه من الناس ولكن طارئاً يحدث في حياتهم (الاطفال بعد نشأتهم) يسبب تدينهم وتعلقهم بالدين بعد اهماله وقد يكون ذلك بسبب معاشرة صديق متدين او بسبب الشعور بالذنب بعد فترة مراهقة حافلة بالمعاصي او بسبب شريط مسجل لواعظ او مرشد من هنا او محاضرة من هناك او صدفة الهية تفتح الطريق امام الشخص للتعلق بالدين.
3- التدين بعد طول العمر وكثرة المعاصي: رغم ان اغلب العاصين يتأملون ان يعيشوا حتى يتوبوا وكلما كلمت احدهم قال لك انه سيتوب فيما بعد (كأنه ضامن انه سيعيش حتى يتوب!) الا ان قلة منهم الذين يوفقهم الله لطول العمر والتوفيق للتوبة فيتمسكون بالدين بعد ان تترهل اجسامهم وتنحسر شهواتهم ولا تقوى اجسادهم على المعاصي اكثر ولا نفوسهم على البعد عن طريق الله اكثر فيتدينون ويعتنقون الدين منهجاً لما يتبقى من اعمارهم وهؤلاء نادراً ما يعودون الى طريق الانحلال بعد التدين ورغم ذلك سنناقش اسباب عودة البعض منهم الى طريق الانحلال.
اسباب التحول
كما قلنا سابقاً يختلف سبب الانقلاب والتحول من شخص لأخر ولكن الاسباب على العموم تتبع الاصناف سابقة الذكر ويمكن تصنيفها كالاتي:
1- التلقين الخاطئ والمنقوص للنشء الجديد لمفاهيم الدين بلا اقناع ولا ترغيب ولا تبيان لفائدة المأمور به ولا مضار المنهي عنه فينشأ الطفل مبرمجاً على ان يفعل كذا ولا يفعل كذا في حين يجب ان يحاول الاهل توضيح العلة والسبب من كل ما يأمرون وينهون ولو بشكل مختصر ومناسب لعمر المأمور والمنهي حتى لا ينقلب في اول فرصة تتاح له وينحل ويتخلص مما كان يعده قيوداً له ولحريته من التزامات لم يعرف فائدتها ولا العلة منها.
2- الاغترار بما عند الغير من دنيا لا يجدها اغلب المتدينين فمن مقارنة بسيطة بين ملتزم بدينه فقير ومنحل عاصي غني ينشأ في داخل الانسان الشك والريبة حول جدوى الدين ويسبب ضعف الايمان لدى البعض محاولة الحصول على ما عند الغير بغض النظرعن كيفية الحصول عليه بالحلال او بالحرام فيبدأ تدريجياً بالتحول الى الطريق الذي يسبب غنى الغني ويسبب تطور الغرب والشرق من حبس الدين في المسجد ( او هكذا يصورون لنا دعاة الدنيا المنحلة) وترك المجاهرة بالعبادات والتهاون في بعضها بحجة تعارضها مع متطلبات العصر والحضارة والمصالح الشخصية والمجتمعية وغيرها من الحجج الشيطانية وإيحاءات النفس الامارة بالسوء والمحيط الفاسد.
3- الخلط بين المفاهيم الانسانية والمفاهيم الطبيعية حيث ان العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء واحياء وعمارة وهندسة وتكنولوجيا كلها تحاول ان تبني جنة على الارض وتعمل وفق منطق التجربة والخطأ وتحاول تدريجياً تحويل الانسان الى حيوان اقتصادي يكد ويتعب ليأكل وينام ثم يستيقظ ليكد ويتعب وهكذا في دوامة لا تنتهي في حين ان العلوم الانسانية التي يعتبر الدين في مقدمتها تهدف الى الارتقاء بذات الانسان وتذكيره بأصله حيث انه يحتوي نفخة من روح الله بين جنبيه ويفترض ان يزهد في درجات الدنيا الدنية ويطمع بما عند الله ولا ينافس في مطامع الدنيا بمخالفة الدين والتحول الى حيوانات في غابة يفترس فيها القوي الضعيف ويبرر فيها الناس لأنفسهم التصارع والاحتراب بأن البقاء للأصلح والاقوى! ففي مثل هذه المجتمعات يجد المتدين نفسه غريباً بدينه بين وحوش لا تعرف الرحمة فيضطر الى نبذ الدين والتحول الى وحش حاله حال الوحوش الكاسرة الاخرى ويشترك في الصراع لأثبات الاقوى والاصلح للبقاء!
4-  شياطين الانس والجن: فهؤلاء لم يخل منهم عصر ولا مصر وفي كل وقت هناك من يحاول ان يشوه الدين ويصوره بطريقة خاطئة او يمسخ وجوده ويسيء تطبيقه ليوهم الناس بعجز الدين عن مواكبة الحياة ويوهم الضعفاء بأن دين الله هو لغة الفقراء والجبناء والمخدوعين وضعاف العقول وان التحلل والتحرر والانفتاح لغة الاقوياء الشجعان ولا اعرف على من تقوى هؤلاء وتشجعوا؟ أعلى ربهم! ام على دينه؟ ومن تحدوا بترك الدين؟ الناس ام رب الناس؟ وهؤلاء برأيي اهم عنصر في حركة التحول والمسخ للبشر واخراجهم من فطرة الله التي فطر الناس عليها (الدين) الى فطرة ابليس وفرعون وقارون وهامان وابو سفيان، فكلهم وقفوا بوجه الدين وحاولوا اثبات فشله ولكن الله كان لهم بالمرصاد وكذلك سيكون تعالى لكل مشابه لهم في كل عصر ومصر ولكن اكثر الناس عن ذلك غافلون.
5- الهزيمة النفسية لدى المتدينين في قبال حضارات الشرق والغرب ومقارنة وضعنا الان بوضع اوروبا في القرون الوسطى حين كان الدين عاملاً مضاداً للتطور والتحضر والعلم والمعرفة ولكن هؤلاء فاتهم اننا كما قال احد القدماء (نحن قوم اعزنا الله بالإسلام فأن ابتغينا العزة بغيره اذلنا) ونحن موعودون بالنصر والاستخلاف في الارض فلم الاستعجال بترك دين الله الى افكار الشرق والغرب؟ ومن قال بأن ترك الدين عندنا سيجعلنا مثلهم؟ ان ترك الدين عندنا سيجعلنا قرود ممسوخين مقلدين لهم بل سيجعلنا خدماً لهم وعالة عليهم نعتاش على ما يصدرون الينا من فكر وخبز واله فهل هذا ما تريدون؟
6- من اسباب ترك الدين هو سوء التطبيق من البعض وخطأ القدوة والاسوة حيث ان اغلب المتدينين يرتبطون روحياً بشخص ما ويراقبون تصرفاته لتقليدها فحين يخطئ هذا القدوة (الذي قد يكون شخص او تيار او حزب او فئة كبيرة) تحصل ردة فعل عكسية لدى المتدين فيسيء الظن بالدين كله وليس بصاحبه فقط وهذه الحالة ذكرها امير المؤمنين علي عليه السلام قبل قرون بقوله (من اخذ دينه من افواه الرجال ذهبت به الرجال) فالمفروض الاقتناع بالدين كدين بكتابه القرآن ونبيه محمد (ص) وسنة الرسول واهل بيته وليس بما يقول فلان ويطبق فلان.
اختم قولي برسالة الى صديقي المتدين التارك فأقول: يقول تعالى في حديث قدسي بالمعنى وليس بالنص : عبدي اطعني فيما امرتك ولا تعلمني ما يصلحك. ولو علم الله تعالى ان الناس يمكن ان تعيش بلا اديان ولا توجيه السماء لما بعث الرسل ولما انزل الكتب ولما اعطانا العبرة في تعذيب هؤلاء ومسخ اولئك ولكان ذلك عبثاً والعياذ بالله، جل ربنا الحكيم العليم عن العبث واللاهدفيه التي تتهمون بها الدين والكتاب والرسول وسنته. واما دعوة العيش بلا ماضوية الكتاب والسنة والاسوة في السابقون الاوائل فهي دعوة لنزع جلود القوم والخروج في العراء الفكري بلا مبدأ ولا هدف ولن تفلح دعوة كهذه لأن الله ناصر دينه ولو بعد حين ورغم انف اعداء الدين.

أحدث المقالات

أحدث المقالات