اعلم ان الكلام الذي ساسرده لكم لا يجدي نفعا، واعلم ان العراق ماض في طريق مجهول وخطير، وان اصوات المنادين بالتقسيم قد علت وتمكنت من كبت الاصوات المنادية بوحدة العراق.
لكني ساسرد القصة التي عشتها في ظروف صعبة؛ لتعلموا من المسؤول عن هذه الكارثة التي لها ما بعدها.
نزحت عن الموصل مع النازحين من ابناء مدينتي الكرام، الذين وضعهم القدر والسياسات الهوجاء وخيانة بعض الضباط في هذه المأزق.
كنت انوي الذهاب الى تركيا، لكن شهادة جنسيتي العراقية التي يمتد عمرها الى (400) سنة داخل العراق، كانت قديمة وحالت دون اصدار جوازات لاولادي الاثنين.
ذهبت الى مركز الاصدار (البديل)، وبعد جهد جهيد وغوص بين امواج من البشر اكملت الاجراءات، وبدأت مرحلة انتظار صدورها، لاثبت للمشكوك بعراقيتهم انني عراقي.
كان هناك رجل في عقده السادس يرتدي زيا جنوبيا ريفيا يحدق بي كثيرا، كنا نمر سويا نستعطف مكاتب الضباط (المخنزرين) نستكمل معاملاتنا، وكان كلما اقتربنا من بعضنا يحاول التحدث الي.
انا اعرف هذا النوع من الرجال، فأنا ابن ريف ومجالس، واعرف ان بنطالي (الجنز) وتيشيرتي الحديث لن يتمكنا من اخفاء ملامحي الصحراوية، وان الرجل يحاول التحدث الي لاسيما وانا شهدنا سويا موجات من الصراخ والكلام البذيء وقلة الاحترام، فربما نشكوا حالنا بعد الله لبعضنا البعض.
سهلت له الامر، وبدأنا الحديث بعد ان دعاني لاحتساء الشاي من (جايجي) قريب.. احسست ان الرجل قريب مني، واني اعرفه منذ زمن بعيد على الرغم من اختلاف اللهجات، فانا من الموصل، وهو من الناصرية.
في بداية الحديث انتقمنا لانفسنا (بصوت خافت طبعا!!) من اؤلئك الضباط الذين فقدوا كل معاني الاحترام والانسانية، ثم جرجرنا الحديث الى مساحات اخرى.. سمحت له بالحديث لكونه الاكبر سنا، ولاني رأيت في نفسه كلاما يود قوله..
قال لي: دخلت المدرسة الابتدائية في احدى قرى الناصرية قبل اكثر من خمسين سنة تقريبا ، وحين وصلت الصف الثالث، همس لي ذات يوم احد اصدقائي قائلا:(هل انت سني ام شيعي؟)، بصراحة ؛ لم افهم حينها ماذا يقصد، فقلت له لا اعلم سأسأل ابي..
ولما قدمت الى البيت وجدت ابي قد عاد من الحقل، وامي تقف الى جانبه، فقلت له:” هل انا سني ام شيعي يا ابي؟”.. نظرت اليه وقد تغير لونه فجأة واحمرت عيناه وتصلبت يداه، وبدأت امي تحاول تهدأته بعد ان صارت بيني وبينه تضمني خلفها وتقول له انه طفل لا يعرف ما يقول، علمت حينها اني في ورطة كبيرة.
لم تنهي امي كلامها حتى اتاها “كفّ” زعزع صوته كل ثابت في جسدي، ثم جرني من يدي، وبدا التحقيق، من الذي اخبرك بذلك، قلت: صديقي..
امضينا الليل وكأن مصيبة حلت ببيتنا، ولما جاء الصباح، اخذني ابي الى المدرسة، وتركني عند باب الادارة ودخل، وسمعته يصرخ كانه مجنون، والمعلمين يحاولون تهدأته، ثم تطور الامر الى استدعاء والد صديقي، وبعد دخوله الادارة بدقائق رأيته يخرج وقد امطروه بعاصفة من التوبيخ و(الرزائل)، ثم فصل صديقي سبعة ايام من المدرسة..
لما كبرت واصبحت رجلا، علمت لم كان يخاف ابي من تلك الكلمات، فأبي والكلام لصديقي الجنوبي طبعا، كان رجلا يحب العراق حبا ليس له مثيل..
ثم ضحك وقال لي: اتعلم؛ انا لم اعرف صديقي وابوه الذين تحملوا كل تلك الاهانات هل هم من السنّة ام الشيعة.. فضحكت كثيرا، ولاحظت كيف ان هذا الرجل واضح وصادق.
ثم سألته بعد ان استيقظ “الصحفي” في داخلي، واذا سألك ابنك اليوم ذات السؤال ماذا تصنع؟
قال وهو يضحك: لن يسألني.. فقد علم ذلك دون سؤال ومن مأئة مصدر..
اعجبت بصديقي الجنوبي، خصوصا عندما رأيته يعتصر الما وهو يتحدث عن الموصل واصدقائه القدامى، وتمنى لو انه يستطيع التواصل معهم لدعوتهم الى منزله والوقوف معهم في محنتهم، وانه يريد رد الجميل لـ(نائب ضابط) فلان.. الذي انقذه مرة من مشكلة كبيرة داخل الوحدة العسكرية كادت ان تودعه السجن، وكيف كان يدعوه صديقه في (عين زالة) شمال الموصل الى البيت، وتضع امه الطعام لهم وهي تقول :” كلو واشبعو” فصمون الجيش ليس بطعام بشري.. غيرت الموضوع بسرعة بعد ان رأيت دموعه بدات تغرق عينيه..
استلمنا شهاداتنا العراقية، وقلت له: الان اصبحنا عراقيين..
ثم ودعت صديقي العربي الجنوبي ذو الكوفية والعقال، وانا اقول لنفسي اخشى اني ودعته الى الابد..