18 ديسمبر، 2024 5:17 م

صدى سنين الخوف / الدكتور جليل كمال الدين

صدى سنين الخوف / الدكتور جليل كمال الدين

في الأداب جامعة بغداد عام ١٩٨٠ ، ألتقيته في المرة الأولى معرفاً عن نفسه لنا ، نحن الطلبة الجدد ، أنا جليل كمال الدين كاتب ومختص بالادب الروسي ، وسوف ألقي عليكم دروساً في الادب المقارن . طلب منا نحن الطلبة بالتعريف عن انفسنا ، وعندما وصل الدور لي عرفت عن نفسي وأسم قريتي الهويدر ، قال مبتسماً ، أجلس أيها الهويدراوي الدمث ”عزاؤكم مشهود . بعد فترة زمنية سألته ما المقصود ؟. الهويدراويون في أربعينية الحسين يلطمون بوجع . من هنا ربما بدأت اللحظة الاولى في فضاء علاقتنا يمتد خارج سياقات طالب وإستاذ الى هموم وتبادل الأراء حول العمل السياسي في العراق . كنت في بداية محاولاتي للكتابة والتردد لابسني إمام قامة أدبية كبيرة تزين يومياً الصحف بمقالاته ومواضيعه ” ومجلة الثقافة الجديدة للراحل صلاح خالص وزوجته المصرية سعاد محمد خضر لايخلوا عدداً من نتاجاته المتنوعة حول الثقافة والأدب مغموسة بهموم الوطن . للأداب في باب المعظم والوزيرية في داخل ذلك المبنى العتيق والشهير أكثر من مكتبة للقراءة والمخطوطات ، في أحداها والتي كانت منزوية وقله ممن يرتادها من الطلبة والمتابعين ، كان الإستاذ الراحل جليل كمال الدين ملتقاه الصباحي برفقة فنجان قهوته للمراجعة والكتابة والتأليف ، في صباحات أحدى الأيام نفضت عن غباري ذلك الخجل القروي ، وعرضت عليه ما كتبته لأول مرة حول قصيدة ”موت شاعر ” للشاعر والاديب الروسي ميخائيل ليرمنتوف صاحب رواية ” بطل من هذا الزمان ” أرثى هذا الشاعر لموت رفيقه الشاعر ألكسندر بوشكين والتي أنتشرت في كل أنحاء روسيا ، والتي دفع بسببها حياته أثناء مبارزة سخيفة بدفع من سلطة القياصرة .. يقول في مطلعها ……

موت شاعر ….

مات الشاعر عبداً للشرف .. مات وكان مفتريء عليه بأفتراءات خبيثة ..

كان مقالي الأول حول تراجيدية المشهد ، وفي يومها قدم لي الراحل الدكتور جليل كمال الدين ملاحظات حول كتابة المقال ، ومازلت متمسك بتلك الأسس في كتابة مقالاتي ، بل دلني وبمساعدته في نشرها في مجلة الثقافة الجديدة بأسم محمد الهويدراوي . ومشت الشهور والسنين في طبيعة تلك العلاقة ، وبدأت أتردد على شقته الكائنة في شارع ١٤ رمضان في المنصور الدور الثاني ، وكان تحتها محلاً للمشروبات الكحولية ، فوفر لنا وقتاً كافياً في جلب البيرة العراقية ”فريدة ” الرائعة المذاق في قيض العراق الحار ، كانت أحياناً تلك الزيارات برفقة زميلي محمد عبد الكريم الزبيدي العمر المديد له . فتنة الحرب العراقية/الإيرانية وتداعياته على الحياة اليومية للعراقيين وسياسة النظام والتذمر منها ، ومن نافلة الكلام أني ساهمت أن تصل مستوى علاقتي بالإستاذ جليل التبادل في وجهات النظر وإبداء الأراء والنقد حولها ، فبحت له بأنتمائي السياسي وعملي الحزبي رغم خطورته المحدقة ، وعندما لمست من جانبه بوادر الاهتمام والمتابعة ، تفتحت أمامي أفاق جديدة للعمل خارج دائرة الريبة والشك من خلال إيصاله له كل أدبيات الحزب الشيوعي السرية وجريدة طريق الشعب وأخبار عمليات الانصار . ويقدم لنا الراحل أبو فرقد شهرياً إعداد ودراسات حول المشهد السياسي العراقي ، وكنت أبعثها الى المنظمة الحزبية للاطلاع والتقييم والنشر أحياناً.

في صيف عام ١٩٨٣ أزداد الخناق عليه من قبل أجهزة السلطة ، فأجبرت على ترك مقعدي الدراسي والقرية والعراق ملتحقاً الى الجبل مع الثوار ” أنصار الحزب الشيوعي العراقي ” ولتداعيات المشهد وخطورته وطريقة محاولة إلقاء القبض عليه ، تركت كل شيء خلفي معرضاً للاحتمالات والتساؤلات والأشاعات بحكم الظرف السياسي وقوة الدكتاتورية في التحكم بمصير ورقاب شعبنا . إستاذ جليل كمال الدين كان واحد من تلك الملابسات والاحتمالات المفتوحة في السؤال وتتبع أخباري حول مصيري . وقد حدثني عبر ناصية التواصل الإجتماعي بعد ثلاثة عقود من الزمن من مدينة الناصرية زميلي ورفيقي حسن خضير الناصري ، كان الانطباع السائد بيننا والهمس الذي يدور حولك أنك في قبضة أجهزة السلطة ومصيرك محتوم الى الموت ، لكننا تفاجأنا وأنا أحدهم أن أصل لك عبر هذه الناصية أنك أنت وما زلت حياً رغم تلك السنين العجاف . في الصيف نفسه من ذلك العام ، كنت في الجبل مع الثوار وفي أعادة الاوراق مع قيادة التنظيم وآلية توجهي الى بغداد والعمل داخل التنظيم وضعت كخطة عمل قريبة لي في أنتظار الأشارة بتأمين المنزل ومستلزمات التحرك ، لكن الذي عرقل تلك الخطط والتوجهات لوجستياً والقرب من القرى والمدن هو سياسة الاحتراب وصراع القوى الكردية بين الاتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) من جهة والحزب الديمقراطي الكردستاني ( حدك ) والحزب الشيوعي العراقي ( حشع ) من جهة أخرى ، مما أدت تلك السياسات الى تقييد حركتنا في شريط حدودي في جبل سورين ، مما تعرقلت خطة نزولي وألتحاقي برفاق التنظيم في بغداد وديالى . وفي أقتراح من قيادة التنظيم من المرحوم طه صفوك ( أبو ناصر ) والشهيد محمد الخضري ( أبو جلال ) في التواصل مع الرفاق وأصدقاء الحزب والذين أنقطعت سبل التواصل معهم ومازالوا معلقين وعلى أقل تقدير تبعد عنهم هاجس الخوف ومفاجأة الاحتمالات السيئة ، فقمنا بجلسات طويلة أنا والشهيد أبو جلال في قرى وتلال شهرزور بدايات ١٩٨٤ قبل توجهه الى بغداد ، والذي أستشهد على أثرها ، وهو من أطلق أسمي الحركي لطيف وهذا مفخر أعتزازي . كانت واحدة من تلك الرسائل ، التي حملها الشهيد أبو جلال الى الإستاذ جليل كمال الدين تتضمن بعض الأشارات المهمة لتطمينه على أقل تقدير أنني ما زلت حياً وإبعاد شبح الخوف عنه . وصلت رسالتي الى الإستاذ جليل وكان مطمئناً وإيجابياً ومتعاوناً حسب قول المرحوم أبو ناصر لي في ربيع ١٩٨٤ في منطقة ” كرجال ” في سليمانية وهذا كان موضع أرتياح وأعتزاز لي ، وما قدمته في تلك الظروف الدموية .

في يوم واحد من الشهر الجديد في السنة الجديدة ١٩٨٦ تعرض التنظيم الى ضربة ماحقة شملت كل أوكاره وشبكات علاقاته أنطلاقاً من محطته الرئيسية في قرية ” جديدة الشط ” في ديالى بساتين عائلة أبو ناصر . في حجم الاعتقالات والاعترافات والاعدامات شملت الإستاذ جليل كمال الدين وحكمته محكمة الثورة عواد البندر مدى الحياة وألقي في ردهات سجن أبي غريب ، والذي قضى زمناً طويلاً منها ، وخرج منها بعد أن شاخ وتعب وأستهلكت قواه وودع الحياة في العاصمة بغداد . في حديث هاتفي مع الدكتور ضرغام عبدالله الدباغ من منفاه الإلماني في برلين ، والذي قضى ١٦ عاماً في سجن أبي غريب باعتباره بعثي يساري ومازال يعتز بهذا الأنتماء رغم ما تلقاه من رفاقه . ذكر لي محطات من أيام السجن ”أبي غريب ” التي جمعته مع الاستاذ جليل كمال الدين ونشاطهم الفكري والثقافي في الترجمه والكتابة والأحلام . وأكد لي واقعة جريئة ، أقدم عليها إستاذ جليل في السجن ، كادت أن تنهي حياته ، في واحدة من وجبات الاعدام المستمرة بحق السجناء ، جاؤوا في أخذ مجموعة شباب الى مقاصل الإعدام فوقف جليل كمال الدين بوجهم هاتفاً بالكف عن ذبح الناس ، وهذه تعتبر بادرة غريبة وجريئة في داخل ذلك المبنى المرعب .

في رحيله الابدي عام ٢٠١٤ عن عمر ناهز ٨٤ عاماً في العاصمة بغداد نعيته بكلمات بسيطة حزينة بعد ما تلقيت نبأ رحيله من ولده فرقد تعبيراً عن أعتزازي به وبتلك السنوات من النضال والمعاناة والتحدي ، مما ألفتت إنتباه الاعلامي عبد الجبار العتابي أنه قامة أدبية وفكرية يرحل عن دنيانا ولم يلقى ذلك الإهتمام الا ببعض الكلمات من أحد طلابه محمد السعدي . بئساً لتلك الثقافة ولذلك الإتحاد الذي لم يحتفي ولايحزن برحيل أعلامه ، والذي ساهم في تأسيسه .

نم قرير العين .. فمازال موقعك شاغلاً وقلمك حزيناً .