23 ديسمبر، 2024 5:42 ص

صدق برايمر وكذب المراؤون

صدق برايمر وكذب المراؤون

شئنا أم أبينا! مر العيد علينا، كما مر على الذين من قبلنا، وقد سجل تساؤل المتنبي قبل ألف وستين عاما علامة استفهام، مازالت شاخصة يرددها كثيرون، وباتت عودة العيد بالحال ذاته الذي أشار اليه ابو الطيب منذ ذاك الحين تثير الامتعاض والتذمر، فمن المفترض أن بتقادم السنين وتقلب الأحوال يتبدل المآل، فهل من حال أو مآل جديد في بلدي العراق؟ وإن كان هناك تبدل فبأي الاتجاهات مساره؟ أيسير نكوصا؟ أم ارتقاءً وتطورا!
عيد بأية حال عدت ياعيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد
أليس هذا كان تساؤل المتنبي منذ أحد عشر قرنا؟ فمن منا باستطاعته الإجابة عما إذا كان ثمة جديد إيجابي في عراقه بعد كل هذه المدة؟ أذكر مثلا نتداوله عادة نحن العراقيين، في حال تصبرنا على ضيم يومنا تفاؤلا بغد أفضل منه، إذ نقول: (منا لباچر ألف عمامه تنگلب) ولست أدري كم هو عمر هذا المثل؟ إلا أن من المؤكد أنه بعمر نشوء العمائم، واتخاذها رمزا لدرجة ثقافية أو فقهية أو علمية أو الثلاثة معا، وما لاشك فيه أن هذا المثل ظهر للوجود بعد أن صار للعمائم أمر ونهي وحسم وبت في صنع القرار والتحكم به. ويبدو من سياق المثل أن إحداها -أو جميعها- قد شطت عن المقبولية، وشطحت بعيدا عن العقلانية، فشذت بالتالي في صنع القرارات، أو لعلها أساءت في مواجهة قرارات كان لحكام البلد شأن في إصدارها، ما دعا الرعية الى أن يعللوا أنفسهم بفسحة أمل، لضيق عيشهم بظل العمائم، فراحوا يتمنون انقلابها لفرج يتأملونه، حتى أن وحي أملهم وحاجتهم الملحة للتغيير، راح يستعجل تحقيق أمنيتهم بانقلاب العمائم، فجعلها (باچر).
وجاء عام 2003، فهلل العراقيون ظنا منهم أن مثالهم أعلاه آل الى التطبيق، فانقلبت عمامة البعث كواحدة من ألف عمامة ستعقبها، إلا أن الرياح لم تكن لتأتي بما يشتهون، فبعد ان حلت الديمقراطية كدستور ثابت، حصل ما لم يكن يحصل في زمن الدكتاتور، إذ تلبست نعمة الحريات الممنوحة للمواطن العراقي بلبوس النقمة والوبال عليه، ولم يعد يرى من خيرها غير كثرة الاتصالات ومواقع التواصل وأبراج الشبكات بمسمياتها العديدة، بين عنكبوتية وإلكترونية، ومن الفضائيات هلّت عليه من على شاشات تلفازه قنوات ماكان يراها في عالم الخيال، ومن الأجهزة المنزلية صار بمتناول يده ما يسد عليه كل حاجاته وحاجات ربة بيته وأولاده، وكذلك من المركبات والعجلات والدراجات، موديلات وماركات يحار في عدها.
ولكن في حقيقة الأمر كانت هناك مأساة تغرق فيها البلاد والعباد، أودت أخيرا الى مآل لايسر أي عراقي ينتمي الى أرض العراق واسم العراق روحا وهوية وكيانا ووجودا، فالأرض احتلها أوباش، والعرض هتكه رعاع، والمال سلبه قراصنة، والدين لوثه كفرة، والرموز هدمها تكفيريون، والحريات اغتصبها معتوهون لايعرفون معنى الإنسانية. أما خيرات البلاد فقد آلت بفضل السراق المحترفين الى ملك خاص، وجيّرت الثروات بعد سقوط نظام البعث لحساب شخصيات محددة، هم أنفسهم الذين مازالوا يتزعمون قيادة أركان البلاد منذ أربعة عشر عيدا بوجه أو بآخر، ويتصدرون صنع القرار وتنفيذه بشكل أو بآخر، وهم ذاتهم الذين قال عنهم بول برايمر في وصيته الى سفير أمريكا في بغداد جون نيغرو بونتي:
“إياك ان تثق بأي من هؤلاء الذين آويناهم وأطعمناهم، نصفهم كذابون، والنصف الاخر لصوص”. كذلك وصفهم برايمر كما هو مؤرخ بقوله: “مخاتلون لا يفصحون عما يريدون ويختبئون وراء أقنعة مضللة”. صدق برايمر وكذب المراؤون.