مهلا عزيزي القارئ ‘‘لاتتسرع وتسحب الأقسام‘ فانا مثلك غصصت بها ‘دون هضمها‘ وهي كمثل من قال كفرا‘‘ ولا تقرب الصلاة‘‘ ويحجم عن إكمال الايه‘‘ لهذا ادعوك ان تتابع معي ‘بقية من فصول حكاية تتلاقح, حيث آثرت انتقاء هذا العنوان ‘لما له من نتوء فاقع موجع‘ بقلب حكايتنا ‘يوم فاجئنا بها‘ اخوة من دمنا ولحمنا ‘في أقفاص الأسر الامريكيه‘ في منطقة النعيريه‘ وتبوك ‘من أراضي المملكة السعودية‘ وهم اٌسارى ذلهم وهزيمتهم ,هاربين حاملين أرواحهم على اكفهم ,كي ينجوا بها من جحيم الموت الزؤام المحدق بهم, من اتون المحرقة الملتهب , التي زجهم بها قائدهم االضروره, بفعل حماقاته واستهتاره بأبناء شعبه, لكنهم أبو إلا إن يفارقوا استمراء الذل والخنوع على يديه, وهم في لجة مصيبتهم ونكدهم الذي أوقعهم به. فيهتفون له ((صدام خلافك ذلينا)) وكأنه يغمرهم بالعز والمهابة والشموخ ويكتنفهم بالعطف والمودة والرحمة
حيث افتقدوا وجوده بينهم وتحسروا على فراق حضنه الدافئ الرءوم , عندما أضحوا فريسة للوضاعة والذل والهوان ,الذي هم عليه ,وهم محجورين في أقفاص أسرهم ,تحت حراب الطغاة الحاقدين ؛؛.
هؤلاء شريحة من بين الآلاف من الضباط العراقيون الأسرى ,اللذين ضجت بهم معسكرات الأسر في الأراضي السعودية, إبان حرب الخليج الثانية, يقابلون إخوة لهم بالبصاق في وجوههم ورمي الحجارة وهم هازجين بأنشودتهم النشاز المقرفه هذه ,مردفة بعبارات سمجة باهته جوفاء , تنم عن مدى الحقد والضغينة, الذي ضمروه في نفوسهم لهؤلاء الفتيه, اللذين انتفضوا كي يغسلوا عار خذلانهم وانكسارهم, يوم انقضوا على أوكار الخزي والجريمة التي لطخت تاريخهم وتاريخ شعب العراق بالوحل والخيبة والبؤس .
وبالسخرية الأقدار وسفاهتها ,إن نرى حماة أمننا اليوم ودرع عمليتنا السياسية الحصين ,بعض من ضمن من رشقونا بوابل من شتائمهم وبصاقهم, وممن كان بالأمس القريب , من تزين صدره بنياشين أم المعارك, وأنواط الشجاعة, تخليدا وتثمينا لشجاعتهم وتفانيهم, وإخلاصا لقائدهم, وبمشاركتهم ألناجزه واندفاعهم الميمون, في قمع وإخماد ما اصطلح عليه في حينه , جزافا( بصفحة الغدر والخيانه) التي توجت تاريخ العراق وتاريخهم بتضحياتها ودماء أبنائها .
فهل يعقل إن يكرم الجلاد إمام عيون ضحاياه, ولازال تراب المقابر الجماعية يأبى الجفاف, ودماء أبناء ألانتفاضه طرية لدنه تصرخ بوجوه قاتليها؟؟.
فلماذا تنكأ الجراح التي لم تندمل ؟؟
ولماذا تثار وتستفز حفيظة اليتامى والثكلى من أبناء شهدائها ؟؟
هل هو جزاء, ومكافئة, ووفاء ,لمن قدمو أرواحهم قرابين فداء ونكران ذات, من اجل إنقاذ شعب العراق من البلاء المميت الجاثم على صدره لأكثر من عشرين عاما ؟؟
الم تكن آلة القمع ويدها الضاربة من بعض هؤلاء, اللذين يتبوءون اليوم المراكز الحساسه والمهمه في المؤسسات الامنيه والعسكريه والمخابراتيه ؟؟
هل يصح ان العتاة والقتلة , من نهازي الفرص, والمتزلفين ,والمتسلقين, وممن باعوا ضمائرهم ,بما كان يجزله عليهم من عطايا وهبات, فنكلو بشعبهم وأذاقوه صنوف العذاب والهوان, هم من يتصدر مقاليد ومقدرات ومصير هذا الشعب الذي تسببوا له بالأمس في نكبته وأوجاعه؟؟.
استغرق مكوثنا في الشراك الامريكيه في منطقة حفر الباطن لأكثر من شهر ,عشناها على مضض, ونكد بانتظار الأتي من الأيام , وسط صخب وضجيج لاهواده فيه, والذي لا يخلوا من العراك والخصام بين العراقيين أنفسهم. فهذا الخليط الغير متجانس, واللاّ متوافق, في تركيبته ونفسيته وثقافته, وأعماره ومن شتات وجغرافيات مختلفة ,من ارض العراق وبلداته, والتي لايجمع بين ميولهم واتجاهاتهم جامع, سوى أنهم انتفضوا على القهر والظلم, وفروا هاربين بعد انتكاسة ثورتهم, طالبين الأمن والأمان من دعاة حقوق الإنسان, وحاضني الحرية ومبادئها, ومن إخوة لهم في العروبة والدين.
لهذا نسجت لهم مخيلتهم ,وتصوراتهم أنهم سيحلّون ضيوفا, أعزاء ,مكرمين, معززين على من استضافوهم. ولم يخطر ببالهم أو يتصوروا أنهم وقعوا أسرى حرب, وسيعاملون من قبل مضيفيهم على ضوء ذلك .
في حين ان اتفاقية جنيف لعام 1949 والذي وقّعت عليها في وقتها 190 دوله عرّفت أسير الحرب, بأنه الشخص المسلح من إفراد القوات المسلحة لأحد إطراف النزاع والذي يقع أسيرا إثناء المعارك أو النزاع المسلح.
فنحن لم نكن مسلحين ,ولم ندخل معركة متقابلة معهم ,وجئناهم بمحض إرادتنا , بعد فتح الحدود الدولية بشهر من وقف إطلاق النار. فكيف نعامل كاسرى حرب ؟؟
إما كان حريا بهم استضافتنا وإحسان وفادتنا إليهم؟؟ كما فعلوها مع إخوتهم الكويتيون يوم نزحوا بالآلاف من بلدهم باتجاه المملكة العربية السعودية ,وكيف فتحت أبواب مدنهم على مصاريعها, استقبالا وحفاوة بالضيوف الزائرين,الذين طالتهم يد الظلم والإرهاب ,فأكرموهم وانعموا عليهم, وفتحوا بيوتهم, وعماراتهم لهم وأضحوا هم أرباب البيوت وساكنيها .
إما كان الأجدر بهم إن يشعرونا بأننا لهم إخوة في اللغة والدين والتاريخ ؟؟,ونحن أيضا ضامنا العنت والظلم من نظامنا, ونحن وإياهم شركاء في المصيبة و البلوى التي حلّت علينا سوية.
أم إن الكويت وهم أهل ؟؟وتربطهم وشائج الحب والصداقة والقربى والانحدار المذهبي ,ونحن دخلاء ومنحرفين دينيا, وعقائديا, ومختلفين مذهبيا , ودخولنا مدنهم وقصابتهم فيه ضرر على ثقافتهم وعقيدتهم وسلوك أبنائهم.
فجرداء الصحراء ورعونة أجوائها خير مأوى وموطنا لهؤلاء الغرباء.
في احد الصباحات المغبّرة يقف محاذاة باب قفصنا باص لنقل الركاب, يسرع منه جندي امريكي الى خيمتنا يخبرنا بعنجهيته المعهوده, ان نلحق به مسرعين ,بعد جمع حاجاتنا, ومن ثم ركوب الباص الذي كان بانتظارنا, وعلى متنه اخوة عراقيون, اتضح من سماتهم وحديثهم انهم من صنفنا. ثم يبدأ بالتنقل بين الأقفاص ليقل البقية المتناثرة ,في الشراك نسوّق إلى مخيم جديد, لم يبعد كثيرا عن المحطة السابقة من مجمع الأسرى, وعندما يكتمل العدد حسب معرفتهم وحسابهم نوزّع على الخيم كل ومعارفه .
في هذا المعسكر بدأت تتبلور العلاقات, وتتضح معالم الإفراد, وشخصياتهم ومعرفة انحداراتهم, وهوياتهم إلاّ الذين لم يستصحبوا معهم أي مستمسك, او هوية تدل عليه, وعلى شخصيته ومهنته فظلّوا مجهولين الهويه حتى افتراقنا ,وقد سبب لنا هذا الإشكال الكثير من الاحراجات والتساؤلات, سواء بالتعامل فيما بيننا أو مع المعنيين بإدارة هذه الشراك وأينما حللنا وارتحلنا .وفي آخر أيام عيد الأضحى ننتقل من المعسكرات التي كانت تحت عهدة التحالف الدولي إلى معسكر النعيريه الذي سيكون تحت الرعايه والإشراف السعودي ,وقبل مغادرتنا المعسكر تقف العجلات إمام خيمة للحرس لتتسمر إبصارنا على زميلنا الذي تطاول بتهديده على المجندة الامريكيه بفضح فعلها الشنيع مع عشيقها ,ولكن بالبؤس ما رأينا, كان مكتوف اليدين يزحف على بطنه, في العراء وعلى رمال الصحراء الساخنة, وحصاها الناعم ,ليكلف بمهمة نقل كوم من حصى, من مكان معين إلى حفرة صغيره وبفمه, هذا شانه من يوم اعتقاله إلى يوم لقائنا به, كما اخبر به احد زملائنا الذي حنق لهذا المنظر البائس, الذي تقشعر له النفس, فعطف عليه وتسلل له للتعرف والاستفهام عن العقوبه وطبيعتها.
محافظة النعيريه او ما يطلق عليها السعوديون بعروس الربيع ,لجوها المعتدل وطبيعتها الخضراء ولكثرة السواح ,والزائرين اليها ,في هذا الفصل, وهي من محافظات المنطقه الشرقيه,.
وبعيدا عن مدينتها وفي عمق صحرائها اختار السعوديون هذا المنفى للأسرى العراقيين إمعانا في إذلالهم وحقدهم عليهم , أو عقوبة على ما اقترفوه من ذنب شنيع في غزوهم للكويت.
علما ان السعوديه والكويت, تتقاسمان جريرة غزو الكويت على حد سواء, مع صدام, فلولاهم لما تعنتك وتهور, واندفع لإشعال حربه الضروس, ضد ألجاره ألمسلمه إيران’ ولولى أموالهم التي أغرقوها وبسطوها تحت يديه, لما قدر لهذه الحرب الصمود والثبات, وبمثل ماعٌرفت به من شراسة وعنفوان. أكلت الأخضر واليابس ,من كلا الطرفين المتحاربين, وكان حطبها الإنسان العراقي ,الذي أرخصوه مقابل سيارة ,أو قطعة ارض, يدفعوها ثمنا لعائلة الشهيد, حتى تبقى أوارها مستعرة لا تخمد, وكان حصيلتها الملاين من البشر من كلا الجانبين ,ناهيك عن الدمار والخراب الذي عم العراق وبنيته التحتية ,وما تبعها من اثأر إنسانيه, لازال البعض يحمل أوسمتها على جسده تعويقا وتشويها . ولازال صدى كلمات الملك فهد,يرن في أذهان العراقيين, وهو يحرضه ويحثه على مواصلتها (نحن معك لبيع العكل) والعبارات الطنانه والألقاب التي أضفوها على شخصه ونعتوه بحامي البوابة الشرقية للوطن العربي.
مما زادته غطرسة وغرورا واستهتارا بالدم العراقي ونكاية باالكويت والسعوديه ,وقصاصا لهما, كان اول سندويش يبتلعه صدام هي الكويت بعد انتصاره المزعوم على إيران.
معسكر النعيريه بمثابة القدمه المتاخره لمجمع الاسرى, المخصص للضباط العراقيين فقط واللذين تجاوزت إعدادهم الألوف. نلج إليه من بابه النظامي واستعلامات للحرس السعودي حيث سنكون من ألان تحت الإشراف والاداره والحراسة السعودية. وطبعا سنلمس هنا تغيرا بالمعاملة الطيبة, ودماثة الخلق, والمدارات لأنهم إخوة, وعرب وجوار, ومسلمين, كل هذه الميزات ستخلق لنا جوا مريحا نشعر من خلاله بالطمأنينة والاستقرار, وراحة البال, بعد عذابات الأيام الخوالي التي أنهكتنا وأعيت قوانا النفسية والبدنية ,هذه مجرد أحلام ,سرعان ما تبددت مع توالي الأيام ومعاشرتنا لإخوتنا في العروبة.
ندخل إلى الكمب المخصص لنا بخيمه النظامية, وأرضيتها الكونكريتيه, ويبدوا انه انشأ تحت إشراف الصليب الأحمر الدولي, قبل اندلاع الحرب .يحيط بنا من كل جانب أقفاص الضباط الأسرى ,الذين اعتلت وجوههم الغرابة وداهمهم الفضول ,لمعرفة القادمين الجدد الذين استوطن هذا القفص, القريب منهم, لهذا بدأت علامات الاستفهام والتساؤل عن كنهنا, وهويتنا, ومن نكون, والحرب انتهت بوقف إطلاق النار منذ زمن فمن أين وكيف جاء هؤلاء, أمر محير كان يختلج في أذهانهم وعقولهم, وعندما تناهى إليهم معرفة هويتنا وطبيعة وأسباب مجيئنا ,تصاعدت حدة الغضب والنفور وروح الانتقام, في نفوسهم من هؤلاء العاقين الجاحدين ناكري الجميل, وبائعي الأوطان ,اشتدت مضايقاتهم وملاحقاتهم لنا بالشتائم ,وبالاهانات, ورمي الحجارة, وحتى نتلافى اهاناتهم وكلماتهم الجارحه والمؤنبة, صار لزاما علينا الابتعاد عن الإشراك والاعتكاف داخل الخيم او في وسط الساحه .
ولكي نستطيع التعامل مع الجهات السعوديه المسؤوله عن رعاية وحراسة المعسكر, لا بد لنا من تنظيم أنفسنا, وتشكيل لجنه من بيننا تقوم بإدارة شؤوننا الداخلية ,على إن ينتخب من بينها شخص يكون مسئولا إمام السعوديين عن القفص واحتياجاته وطلبات إفراده, وكان هذا تلبية لإيعازهم ليتسنى لهم انسيابية وسهولة الاتصال مع المعسكر وضبطه .
وقع الاختيار عليّ من قبل جميع الاخوه القاطنين في القفص ,علما ان طريقة الأرزاق والتغذية في هذا المعسكر أخذت منحا مغايرا على ما كنا عليه في المعسكرات الامريكيه, حيث كانت تعتمد على ارزاق المعركه الجافه, و التي توزع للجنود الامريكان ,وهي عباره عن كيس من الجلاتين على ما اعتقد يستطيع حفظ المواد الغذائيه المعلبه بداخله لفترة طويله, يحتوي على أكثر من عشر مواد مختلفة, تعطي قيمة غذائية متكاملة للجندي, ولمدة يوم واحد وهو على نوعين من المحتويات, منه من تحمل بعض محتوياته مادة الخنزير ومنه بدونها , والذي صنع خصيصا للمسلمين.إما في النعيريه أضحت الأرزاق طريه وطازجة يتوجب علينا طبخها بأنفسنا فتولّى مجموعه من الاخوه هذه المهمة .
في احد الأيام وفي الشرك المقابل لنا والذي لا يفصله عن قفصنا .سوى شارع بعرض أربع أمتار حدثت ضوضاء تعالت من بينها هتافات وأهازيج وعويل ولم يمضي وقتا طويلا إلا واشتعل المعسكر بأزيز الاطلاقات الناريه المصوب اغلبها إلى هذا القفص المحاذي لنا فكان الرصاص يخترق الأجواء قريبا جدا من فوق رؤسنا مما اضطرنا إلى اخذ وضع الانبطاح في خيمنا ونحن لا نعلم ماذا يجري من حولنا وكأننا في وسط معركة وبعد توقف إطلاق النار وهدأت ألجلبه والضجيج اتضح لنا إن احد الضباط الأسرى وقع مغشيا عليه من شدة المرض الذي انتابه والسعوديون يمتنعون عن جلب سيارة الإسعاف لنقله إلى المستشفى بالرغم من طلب الضباط وإلحاحهم لان الحرس السعودي كانوا بأشد الارتياب من دخول المعسكر خشية الغضب والفوران والحدية التي يتصف بها العراقيون وربما سيلحق بهم الأذى والضرر ويتعرضون إلى ما تحمد عقباه, فضلا على إن عدد الحرس في تلك الأيام كان محدودا بفعل ألعطله الطويلة لعيد الأضحى, لهذا أحجموا عن الإتيان بالإسعاف مما أدى إلى وفاة الضابط متأثرا بمرضه.
وهذه ليست الحادثة الأولى التي يتعرض لها العراقيين, من قبل الجيش السعودي, بل هناك حوادث مشابه كثيرة, أدت إلى إزهاق أرواح جمة من العراقيين, ويمكن إن نعلل ذلك . للتناقض الصارخ بين طبيعة الجندي السعودي التي تتصف بالهدوء والبرودة حد ألبلاده ,وبالبدوية وعدم الاكتراث, واللامبالاة , والعراقي بحرارته وعنفوانه وتمرده, وهو مشحون بما حملّه نظامه من ويلات وأزمات, فكيف يتسق ويتعايش النقيضين تحت سقف واحد.
[email protected]