ما يحدث دائما لأي حاكم استثنائي في أية دولة من دول العالموفي أية مرحلة من مراحل التاريخ حدثَ لصدام حسين.
فقد كُتبت، وسوف تظل تكت، عنه وعن سيرته السابقة واللاحقةأطنانٌ من الدراسات والمقالات والشهادات، ولكنَّ كثيرا منهاصحيح وكثيراً منها، أيضا، ملفَّق ومؤسَّس، مُسبقا، ومدسوسبدوافع ثأرية، أو لأهداف حزبية أو طائفية أو عنصرية مختلفة.
نعم، إن صدام حسين استثنائي، ومن نوع فريد. فمن آخرالصفوف، ومن بيئة اليتم والفقر والإهمال والضياعأجاد الصعود إلى حيث يحكم دولة بحجم العراق، وفي أغنى مراحل تاريخها،مالا وشعبا وثروة. فبعقريته الأمنية التآمرية المبتكرةالمتجددة تمكن من أن يُكوّر حزب البعث العربي الإشتراكي ويضعه خاتمافي إصبعه، ويجعله جهاز مخابراته، وأداة حمايته وحماية أسرتهونظامه، والمؤيدَ والمبارك والمشرّع لسياساته وقراراته، صائبةكانت أو خاطئة، عادلة أو ظالمة، عاقلة أو حمقاء، الأمر الذي مكنهمن أن يجعل كل ما يبذله أعداؤه الخارجيون، إيرانيين وسوريينوخليجيين، لإسقاطه يسّاقطُ جهدا بعد جهد، ويوما بعد يوم،ويجبر معارضيه العراقيين على الهرب والاختباء في دولاللجوء، أو الاقتناع بأن سقوطه لا يمكن تحقيقه إلا بدولة كبرىبوزن أمريكا تغزو العراق، وتجتاحه بجيوشها الجرارة لإسقاطهوشنقه في النهاية. وهذا هو الذي كان.
نعم، إن الحديث عن صدام حسين أصبح مملا ومكررا ولا جديدفيه. ولكن، لكثرة ما لحق بتاريخه الشخصي والأسريوالعشائري والسياسي من أخبار وقصص وحكايات غير أمينة أوغير عادلة وجدت من واجبي أن أدلي بهذه الشهادة الأخيرة،وأغلق هذا الملف، ولن أعود إليه.
أصله وفصله:
العشائر الرئيسية الكبيرة التي سكنت تكريت ثلاث، التكارتةويسكنون في شمالها، والحديثيون في غربها، وألبو ناصر فيشرقها المواجه لقرية العوجا التي تبعد 11 كيلو متر عن تكريت.
وعشيرة ألبو ناصر تتفرع إلى، ألبو عمر، ألبو خطاب، ألبومُسْلُط، ألبو عبد الغفور، وألبو بكر، ألبو مجيد، ألبو سلطان، ألبوعبد المنعم ومنهم آل الرشيد. وصدام حسين من فخذ آل المجيدالمتفرع من ألبو ناصر، وأغلب أبنائه بقي في قرية العوجا التيتبعد عن تكريت، جنوبا، أحد عشر كيلو مترا، وكان بعضهميمتهن الزراعة، ومنهم إبراهيم الحسن زوج صبحة طلفاح،وبعضهمالآخر أضطر لامتهان الإغارة على منازل مدينة تكريتوسرقة دجاجها بسبب الفقر والجهل وقسوة الطباع.
بالمقابل كانت الأفخاذ الأخرى المتفرعة من ألبو ناصر الساكنةفي تكريت أكثر تمدنا ومسالمة وتحضرا ومكانة، ولم يعرف عنهاالعنف والشدة والعداء، خلافا لما كانت عليه طباع ألبو عْمَرّ،وخاصة ألبو مُسْلُط، (خير الله وصبحة وليلى وبدرة طلفاح)، وألبومجيد، (حسن المجيد وحسين المجيد).
في بيئة من هذا النوع ولد صدام حسين 1937 بعد وفاة والدهحسين المجيد. والثابت تاريخيا أن العلاقة بين ألبو مجيد وألبوعبد الغفور وباقي ألبو ناصر والعشائر الأخرى الساكنة فيتكريت وضواحيها لم تكن علاقة عمودة وتراحم وثق، بل كانت تتملكها كراهية متبادلة وصلت في بعض حالاتها إلى القتلوالقتل المقابل. بل كان القتل والاغتيال والكيد والغدر يحدث بينأبناء الفخذ الواحد، وهناك أدلة وأسماء وأحداث معروفة ومتداولةبين أهالي تكريت.
صدام ثلاثة في واحد
للقيادي البعثي التكريتي المعروف، صلاح عمر العلي، توصيفلشخصية صدام حسين صائب ودقيق. فقد أكد أنه شخصان فيشخص واحد. فحينا ترى فيه ذلك الشخص اللطيف المهذب الذييحترم محدثيه ويستمع إليهم بود، وحينا آخر تجد فيه العنيفالقاسي المستعد لقتل خصمه دون تردد.
أما أنا فبحكم رفقتي الطويلة أجعله ثلاث شخصيات لا تشبهالواحدة منها الأخرى. الأولى شخصية الريفي العراقي البسيطالممتليء بالنخوة والكرم والشهامة. والثانية شخصية المتدينالعروبي المتعصب المعبأ بقصص خاله خير الله طلفاح عن تراثالأجداد العربالأشداء الأوائل، وعن الرجولة والشجاعة وردالظلم، وأخذ الثأر، والانتقام. أما الثالثة فهي شخصيةالسياسيالطموح الذي اكشف أن طريقه إلى الصدارة فيالحزب يتطلب المزج المتقن بين النعومة والشدة، وبين الحبوالكره. وبعد أن أصبح الساعد الأيمن لقريبه رئيس الجمهوريةوأمين سر القيادة القطرية لحزب البعث ورئيس مجلس قيادةالثورة، بعد الانقلاب السهل الناجح على نظام عبد الرحمن محمدعارف في1968، وجد أنه محتاج لشعرة معاوية، فيدٌ تحمل صرةمال، والأخرى تمسك بمسدس جاهز للاستعمال.
وحين تولى منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في العام1974 أصبح في النهار يستقبل مكالمات المواطنين، ويستمعلشكاواهم، ويلبي طلباتهم، ويزور منازل الفقراء ويعطف عليهم،وفي الليل يدبر ويخطط وينفذ حملات تسقيط الخصوم، ووأعداء الحزب والثورة، ثم بعد ذلك أعداء القبيلة، ثم الأسرة الحاكمة. ومن ضحاياه كان رفاقُه في الحزب ومجلس قيادة الثورةالمعارضون لصعوده السريع إلى القمة في الحزب والسلطة.
بين تكريت والعوجا:
لكثرة ما كنتُ أتردد على منزل خير الله طلفاح في تكريت، وماتسببه ثرثراتنا، نحن الثلاثة، عدنان وصدام وأنا، من إزعاج لأهلالدار، فقد اقترح علينا خير الله أن نبني غرفة لنا في باحة المنزلالواسعة. وتم قبول اقتراحه على الفور، بشرط أن نقوم نحنببنائها وبأقل التكاليف. كنا، صدام وأنا، البنّاءيْن، نقف علىأعلى الجدار نتلقى من عدنان ومن ساجدة الطين والِلبِن (الآجرالطيني المجفف).
وحين كبرنا قليلا صرنا نسافر معا إلى قرية العوجا مرة كلأسبوع، في شهور الصيف فقط، حين يعود عدنان من بغداد، لزيارة صبحة والدة صدام، بزورق صغير ينساب في الذهاب معمجرى نهر دجلة في رحلة جميلة ساحرة. لكنه في العودة يصبحمهمة شاقة ثقيلة كريهة يحاول كل منا التهرب منها. إذ كان عليناسحبه عكس تيار الماء بجهج جهيد، مسافة عشرة كيلومترات. وكنا نتناوب على سحبه بالتساوي.
وفي إحدى تلك الزيارات تعرفت على (دْهام) الذي كان شهيراًيومها بأنه (البطل. قيل لي إنه قتل أحد أعمامه، ومكث في القريةدون أن يختفي، ودون أن يجرؤ شرطي من التكارتة على إلقاءالقبض عليه خوفا من انتقامه. ودهام هو ابن إبراهيم الحسن(أحد أبناء عمومة حسين المجيد والد صدام)، وهو أيضا الأخالأكبر لبرزان وسبعاوي ووطبان، من أم غير(صبحة) والدةصدام، وهو الذي جعلني أمسك بالبندقية لأطلق منها الرصاصةاليتيمة في كل حياتي، فقد كرهتها حين رجّتني وكادتأن تلقيبي على الأرض، وسط ضحك دهام وصدام وعدنان.
الوالدة:
صبحة طلفاح إمرأة فاضلة بمقاييس التقاليد القروية والعشائريةالمتزمتة، وكل من افترى عليها كذبا، وحاول الإساءة إلى عفتهاوشرفها آثمٌ وظالم ومزور تاريخ.
إبراهيم الحسن:
فلاح بسيط يعمل أجيرا لدى خير الله طلفاح شقيق زوجته الذياستولى على أرض في العوجا ونصب فيها مضخة ماء ليقومصهره وزوجته وأولاده بزراعتها بالخضراوات العادية البسيطةالتي كانت تصدر إلى مدينة تكريت.
أما دار إبراهيم الحسن في العوجا فلم تكن داراً كما تُعرفالدور. فهي غرفة واحدة لكل احتياجات الأسرة، غرفة النوموالطعام والضيوف. وفي الليل، وكنا في فصل الصيف، ننام علىحصيرة خارج المنزل، صدام وعدنان وبرزان – وكان صغيراً –وأنا.
وخلافا لما تداوله مؤرخون وكتاب كثيرون لم يكن إبراهيم الحسنقاسيا على إبن زوجته صبحة، صدام حسين، إلى درجة أنه كانيضربه بالعصا، ويُحمّله ما لا طاقة له به من الأعمال والمهماتالشاقة.
وفيما يخص هذه المسألة كان الأمر الذي لم أفهمه من تلكالزيارات هو نفور إبراهيم الحسن من إبن زوجته من المتوفى حسين المجيد. كان يتلقانا(عدنان وأنا) ببشاشة وود كبيرين، لكنهلم يكن يمنح صدام شيئا من تلك البشاشة.
أما الوالدة صبحة فقد كانت تبدو لي كأنها تتعمد عدم إظهرحبها لولدها صدام، ربما مجاملة لزوجها، ولعدم إثارة حنقه عليهاوعلى صدام.
وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بالأخير إلى الهجرة إلىتكريت للسكن في منزل خاله خير الله في الصيف، ومنزل خالتهليلى في الشتاء حين يعود خير الله إلى بغداد، خلافا لقصص وحكايات مفبركة تقول بأن طموحه للدراسة كان هو السبب في هروبه من العوجا والتجائه لمنزل خاله خير الله في تكريت.
السمك:
كانت هوايتنا الوحيدة صيد السمك. أمه صبحة كانت تشجعناكثيراً على ذلك. خصوصاً وأن لصدام خبرة مبكرة في تركيبقنبلةٍ خاصة ترمى في النهر لتقتل السمك الذي يطفو على سطحالماء بعد انفجارها. كان يشتري عجينتها من مكان، وفتيلتها منمكان آخر. كان ينزل إلى النهر، ويذهب، بجرأة عجيبة، إلى مدىبعيد ثم يشعل الفتيلة وينتظر ويتأملها طويلا، وهو ينظر إليناليثبت لنا شجاعته، ثم يرميها. وما هي إلا لحظات حتى يهتزالشاطيء ويتدفق الماء ويطفو السمك فنتسابق مع تيار الماءلالتقاطه.
صدام والغناء:
من تلك الأيام أتذكر أن عدنان كان معجباً جداً بأغنية لفايزةأحمد كانت تذاع كثيراً من الإذاعة هي أغنية (أسهر وانشغلأنا)،وكان يغنيها بصوته كثيرا، فيردعه صدام وهو غاضب بنوعمن الاستصغار والاستهجان، صارخاً بوجه عدنان بأن الغناءميوعة وشيء معيب. كما أتذكره كيف كان يسخر من عدنانومني حين نتحدث عن الحب والفتيات الجميلات.
في بغداد:
في العام 1957 كان صدام وعدنان قد سبقاني إلى ثانوية الكرخالواقعة إلى جانب جسر السراي الذي سمي فيما بعد بجسرالشهداء، وكان خير الله طلفاح مديراً لدار المعلمين الابتدائية فيأبو غريب ويسكن في الجعيفر. ولأنني من دون أقارب فيالعاصمة فقد سكنت في فندق (التيسير) القريب من الثانوية.وفي اليوم التالي لوصولي إلى بغداد أخذني خير الله طلفاحإلى مدير ثانوية الكرخ، يونس محمد أمين، وتوسط لي، فقبلتونسبت لشعبة الخامس (أ) أدبي الشهير بقيادة التظاهرات الطلابية، حيث عدنان خير الله وسامي مهدي والقاص الراحلموفق خضر ومثنى حمدان العزاوي الذي قتل في الهجوم علىوزارة الدفاع في انقلاب1963، وآخرون، أما صدام فكان فيالصف الرابع – علمي في الثانوية نفسها.
محمد فاضل الجمالي:
في عام 1957 أكملت كتابة ديوان شعري صغير باسم (فيسبيل الوطن). ولأني لم أكن أملك ثمن طباعة الديوان فقد تطوعخير الله طلفاح وعبر معي بزورق من الجعيفر إلى سوق السرايليكفلني عند صاحب مطبعة أسعد، على أن أسدد ثمن الطباعةمن عوائد المباع.
وبهدف الترويج للديوان كان علي أن أزور الصحف لإهداء نسخمنه للمحررين المسؤولين عن الصفحات الثقافية فيها.
رافقني صدام إلى جريدة العمل التي يصدرها رئيس الوزراءالسابق الدكتور فاضل الجمالي رئيس حزب العمل. دخلت علىالصحفي محمود الجندي الذي كنت أتعرف إليه لأول مرة،وعرضت عليه النسخة ورجوته الكتابة عن الديوان. لكنه نهضودخل غرفة مجاورة وعاد ليطلب مني مقابلة (الدكتور). مكثصدام في غرفة محمود. وحين دخلت وجدت فاضل الجماليمبتسما وفي يده الديوان، ويمازحني قائلا “يا حرامي“. خفتوخجلت من هذه التهمة. فبادرني قائلا: كيف تثبت لي أنك كاتبهذا الشعر؟ هدأت قليلا، وطلبت منه أن يسألني عن أية قصيدةمن قصائد الديوان، بحرها، موضوعها، مناسبتها – مثلاً – لأثبتله أنني كاتب هذا الديوان. قال: لا، أريدك أن تكتب بيتين عنجريدة العمل. وأعطاني ورقة وقلما. هممت بالكتابة، لكنني قلت لهإن الشاعر المحترم يا دكتور لا يكتب شعره حسب الطلب، فهذا ما كان يفعله المتكسبون في العصر الجاهلي فابتسم وصدّقأنني صاحب هذا الديوان، وتمنى لي التوفيق، ونادى محمودالجندي وطلب منه الاهتمام بالكتاب.
كان صدام قد أحس بالملل والقلق بعد أن طالت جلستي فيمكتب الدكتور. ونحن هابطان على السلم الضيق المظلم فيطريقنا إلى شارع المتنبي سألت صدام:
هل تعلم من هو الدكتور الذي قابلته؟
قال: لا، من؟
قلت: هو الدكتور فاضل الجمالي.
سألني: كيف كان معك؟
قلت: كان لطيفاً وراقياً وكريماً جداً. أخبرته بحكاية الاختبارالذي خضته. فجأة توقف صدام وقال:
تعال لنعود إليه لأطلب منه أن يقبلني في حزبه.
ضحكت وقلت، ولماذا تريد الانضمام إلى حزبه؟
قال: لأن في إمكانه أن يساعدني ويأمر بتعييني في الأمن.
ضحكت من الفكرة، وواصلت سيري في شارع المتنبي وهويتبعني ويلح علي.
اغتيال الحاج سعدون الناصري:
في منتصف تموز 1958 كنت في بغداد حين حدثت الثورة،ورأيت حملة إسقاط تمثال (مود) القائد البريطاني الذي احتلبغداد وهزم العثمانيين، والمظاهرات الصاخبة التي عمت بغدادتأييداً للثورة. وزرت خير الله طلفاح في منزله ورأيته متحمساً فيثنائه على بعض قادة الثورة. لكن صدام لم يخبرني بأنه عازمعلى المجيء إلى تكريت خلال عطلة الصيف.
بعدها بشهرين تلقيت رسالة سارة مفاجئة من ناشر في بغداداسمه خالد العاني يعرض علي فيها إعادة طباعة الديوان،للاستفادة من أمر صادر من وزارة المعارف لجميع إداراتالمدارس يوصي باقتنائه.
وفي الأيام التي كنت أرتب فيها أموري للسفر إلى بغداد فاجأنيصدام بزيارة في تكريت، وأبلغني أنه وصل تواً من بغداد فيزيارة شوق لأهله، ولن يمكث طويلا. فاتفقنا على أن نسافر معاًإلى العاصمة. كان الوقت أول ساعات المساء. طلب مني مرافقتهفي جولة في المدينة، نسهر بعدها كعادتنا القديمة في إحدىالمقاهي. وقمنا بجولة ممتعة على مقاهي تكريت كلها. ثم استقربنا المطاف في مقهى تقع على الطريق العام المعبد الوحيد فيتكريت الذي يربط بغداد بالموصل والشهير باسم (المبلط) فهبصاحب المقهى (عبد)، وهو من قرية العوجا ومعروف بأنهشيوعي، ليستقبل صدام بالأحضان. وكان شائعاً عن تلك المقهىأنها مقهى الشيوعيين، وأن أغلب روادها الدائمين من الشيوعيينوأبناء العوجا، وأشهرُهم نائب الضابط المتقاعد في القوة الجويةالحاج سعدون الناصري، وكان يقال إنه من قادة التنظيمالشيوعي في تكريت. نهض بحماسة أهل العوجا واحتضنصدام بحرارة، وأصر على أن نشاركه الطاولة ونُمضي معهالسهرة.
في تلك الجلسة سأل صدام سعدون إن كان يحمل مالا، فبادرسعدون وأخرج كيس نقوده، فاختار صدام منها دينارين فقطعلى مرأى ومسمع من الجميع. غادرنا المقهى في حواليالعاشرة ليلا، وبقي سعدون يكمل السهرة. ورحنا، صدام وأنا،نتجول في أزقة تكريت. وهنا ينبغي إيضاح شيء مهم في هذاالخصوص. إن الأزقة التي تؤدي إلى دارنا ودار ليلى طلفاح(خالة صدام) والتي كان ينوي المبيت فيها تلك الليلة، كانت ضيقةجداً ومظلمة تماماً. وصلتُ إلى دارنا أنا أولاً، وودعني وأكملسيره إلى منزل خالته.
وفي الصباح الباكر صحوت على صوت والدتي وهي ترتجف منالخوف وتسألني: ماذا فعلت؟ وتخبرني بأن الشرطة في البابيسألون عني. نزلت على عجل، فوجدت شرطيين أخذاني معهماإلى مركز الشرطة، وكل ما قالاه لي في الطريق هو أن الحاجسعدون قُتل وأنني الشاهد الوحيد. ثم علمت بأن سعدون نطقباسم صدام قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم تنفع شهادتيأحداً، لا السلطة ولا الشيوعيين ولا صدام حسين. فالذي رأيتهورويته عن السهرة وعن الدينارين اللذين استلفهما صدام منسعدون، وتأكيدي أنني دخلت منزلنا أولا ثم واصل هو سيره، لمينفع في نفي التهمة عنه أو تأكيدها. وألقي القبض على صدامفي اليوم نفسه، وتم ترحيله إلى بغداد بعد يومين. ثم علمت بأنخير الله ولطيف طلفاح وعدنان قد ألقي القبض عليهم أيضاوأودعوا موقف السراي.
كانت هناك قناعة لدى كثيرين من التكارتة بأن صدام هو القاتل. وعلمت بعد ذلك بمدة طويلة، من أحد أفراد العائلة أن القتيل كانقد رفع مذكرة حزبية يلتمس فيها طرد خير الله طلفاح من مديريةالمعارف، باعتباره أحد الرجعيين أعداء الثورة والزعيم. وكانت ثورةتموز قد عينت خير الله مديراً لمعارف لواء بغـداد (تربية محافظةبغداد) بعد توحيد مديريتي معارف الكرخ والرصافة، ولم يمكثفي الوظيفة سوى شهرين أو أقل، أحيل بعدهما على التقاعد. وتمكن خير الله من الحصول من أحد أقاربه المنتمين إلى التنظيمالشيوعي في تكريت على مضمون المذكرة التي رفعها ابنعمومته سعدون. وفي نظر خير الله والعشيرة أن الثأر أمر لازم،حتى لو كان من ابن عم، ومن العشيرة نفسها.
ولقناعة الشيوعيين بهوية القاتل، ولعدم وجود شاهد عيان نافعواحد أو دليل يثبت الجريمة على صدام، لجأوا إلى تكليف اثنينمن التكارتة المتعاطفين معهم للإدلاء بالشهادة زوراً في المحكمة،رغم أنهما لم يشاهدا شيئاً على الإطلاق. وأذكر منهما واحداًيقال له (ملوكي) ومعروف أن شاهد الزور يناقض نفسه حينيخوض في التفاصيل الدقيقة، خصوصاً إذا كان في مواجهةمحامٍ شاطر يتقن الإيقاع به. وهكذا كان، وثبت تناقضالشاهدين أمام المحكمة بفعل هجوم هيئة الدفاع الضخمة التيكان يرأسها المحامي القومي الشهير عبد المحسن الدوري. وأذكر أن صدام هتف في المحكمة عند النطق بالحكم ببراءته: (ظهر الحق وزهق الباطل).
لا أعلم ما إذا كانت محكمة الشعب قد طلبت إحالة القضية إليهابعد ذلك. لكن الذي أذكره أن العقيد فاضل عباس المهداويرئيس المحكمة الخاصة أشاد بـ (الشهيد) سعدون، وهاجم القاتلالمجرم صدام التكريتي. لقد كانت هذه الشتيمة مفتاح الحظلصدام. فقد أبرزت اسمه كثيرا، وجعلت حزب البعث يستدل علىمقاتل ينفع في مواجهة أعداء الحزب، فسعى إلى ضمه إليه فيمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم الفاشلة في 1959.
وتكشف شهادة الملازم فالح الناصري (شقيق المغدور الحاجسعدون) في محكمة الشعب، المنشورة ضمن الجزء الخامس منمحاضر جلسات المحكمة، في الصفحات 407 – 410 جانباً منالخلافات بين ذوي القتيل سعدون الناصري، وبين خير اللهطلفاح وابن شقيقته صدام، حيث يقول فالح في شهادته، إنشقيقه الحاج سعدون التكريتي كان من المناوئين للمرشحالحكومي لمجلس النواب في العهد الملكي، عن مدينة تكريت، علاءالدين الوسواسي المحسوب على خليل كنة أحد مساعدي نوريالسعيد. وخلال آخر انتخابات نيابية جرت قبل ثورة 14 تموز كانخير الله طلفاح يدعو إلى انتخاب الوسواسي وحصلت بينه وبينقريبه سعدون الناصري مشادة كلامية وسوء تفاهم وشجار.
ويمضي فالح الناصري في شهادته أمام محكمة الشعب، فيقول:بعد 14 تموز عين خير الله مديراً لمعارف لواء بغداد، وبعد فترةقصيرة نقل إلى التفتيش فاعتقد بأن سعدون الناصري وعليحسن الرشيد معاون دار المعلمين الابتدائية في أبوغريب، قدماإخبارية للحزب الشيوعي عن علاقة خير الله القديمةبالوسواسي، فأرسل يوم 14 تشرين الأول 1958 ابن أخته الذيتبرأ منه أعمامه براءة رسمية، ورباه خاله منذ كان طفلاً بعد وفاةوالده فضرب أخي وقتله، وأحب أن أذكر أن جميع المحامين لميقبلوا بالدفاع عن خير الله طلفاح، إلا عبد الرحيم الراوي وهزاععمر التكريتي وعبد المحسن الدوري وعبد الوهاب الخطيب.
ويسأل رئيس المحكمة العقيد فاضل المهداوي، الشاهد الملازمفالح الناصري، من الذي عين طلفاح في منصب مدير المعارف،فيجيب الناصري إنه وزير المعارف (وكان جابر عمر)، ويتدخلالمدعي العام العقيد الركن ماجد محمد أمين ويقدم مرافعة بهذاالخصوص، يقول فيها: بالنظر لهذه المعلومات كما حصلت ليمعلومات أخرى تربط بين هذه الحادثة، فإن هذه الإخبارية التيأشار إليها الشاهد وصلت إلى الأمن وعن طريق الأمن وصلتإلى خير الله، وقام بالعمل الشنيع، وهو الذي أرسل الشخصوقتل الشهيد (انتهت الشهادة).
وبعد سنوات، وتحديداً في عام 1974، دعا الرئيس أحمد حسنالبكر، إلى مجلس عشائري حضره نائبه صدام، وخاله خير اللهونجله عدنان وزوج أمه إبراهيم الحسن وأولاده برزان ووطبانوسبعاوي وأولاد عمومة صدام، كما حضره أشقاء سعدونالناصري ووولداه، وسويت قضية مقتل الحاج سعدون عن طريقالفصل العشائري، وقيل إن صدام دفع (دية) رمزية كما تقتضيالتقاليد العشائرية.
كاكا عزيز
ونحن في مرحلة الدراسة المتوسطة نُقل إلى ثانويتنا في تكريتمدرس كردي اسمه كاكا عزيز، ومعه شقيقه بهزاد وهو في مثلأعمارنا. كان عزيز شاباً وسيماً ولكن شديد البأس، متوسطالقامة يتمتع بجسد قوي. وكان من عادته، لإظهار حزمه وشدته،أن يختار أحدنا قبل أن يباشر درسه، فينهال عليه ضرباً، حتىلو لم يكن هناك سبب كافٍ للعقاب.
وفي أحد الأيامضحك صدام وسمعه عزيز، فسارع إليه ولطمهعلى وجهه لطمتين بكفه، وعلى ظهره لسعتين من عصا يحملهامعه باستمرار. تحمل صدام الضربات بصمت. وسار الدرس بعدذلك بهدوء، إلى أن دق جرس الاستراحة، ف تجمعنا ساخرينحول صدام، هازئين منه ومن صمته على ما ناله من المدرسعزيز. لكنه ظل صامتا ولم يجب بشيء.
وعلم مدير الثانوية، وهو من أهالي تكريت ويعرف أهلها خيرالمعرفة، فخاف من العاقبة. وشرح للمدرس عزيز خطورة أهلالعوجا، ورجاه أن يتدارك الأمر بسرعة. وبالفعل استقدم المديرصدامحسين ولاطفـه وحـاول ترطيب الأجـواء، ورجاه أن يعتذرللمدرس، حتى وهو غير مذنب، إكراما للمدير ،ولكي ينتهيالموضوع. وبالفعل أقبل صدام على عزيز معتذراً بأدب جم، وظنالجميع أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد.
كان عزيز يسكن مع أخيه في منزل متواضع يقع على آخرأطراف المدينة، في مواجهة الثانوية. وكانت المنطقة غير آهلةومظلمة في الليل.
وفي اليوم التالي علمنا أن أحداً جاء راكباً على فرس وطرق بابمنزل كاكا عزيز. وحين فتح أخوه بهزاد الباب أطلق الطارق عليهعياراً نارياً وهرب. وعلمنا أيضا أن الرصاصة أصابته في ساقه. حمل كاكا عزيز أخاه إلى المستوصف لإسعافه، ثم ذهب إلىالشرطة واتهم صدام بالجريمة. وحين وصل أفراد الشرطة إلىمنزل ليلى الطلفاح، حيث كان صدام يقيم في تلك الأيام، لميجدوا الفرس ولا البندقية، وكان صدام نائما في سلام. كانالمنزل يقع، كما أسلفت، في حي قديم ذي أزقة ضيقة لا تتسعلفرس بأي حال من الأحوال، فسُجلت القضية ضد مجهول وحزمكاكا عزيز حقائبه ورحل.
تدخل على طريقته
في أحد أيام صيف 1957 أرادت ليلى الطلفاح أن تجعل باحةالمنزل الصغيرة إسمنتية لتتخلص من التراب والغبار ولتبدو دارهاأكثر فخامة. فطلبت من صدام وعدنان ومني أن نقوم بمهمة تعبيدالباحة بالإسمنت.
تولى الصغير دحام تدبير كيسين من الإسمنت تمكن منسرقتهما بسهولة. فقد اختارت شركة (زبلن) الألمانية التي كانتتقوم بشق وتعبيد الطريق العام بين بغداد والموصل، مدينةَ تكريتلتكون محطة وسطية لها بين بغداد والموصل وأقامت لمعداتهاوجميع لوازم العمل مستودعات ضخمة في ضواحي المدينة. واختارت واحداً من أهل العوجا ليكون حاميها وحراميها فيالوقت نفسه. وصادف في تلك الفترة أن قدم من الموصل صائغاسمه محمد، واتخذ من دكان صغير مواجه لمنزل ليلى الطلفاحمعرضاً ومعملاً لتصليح الذهب وصياغته . أعطته ليلى قطعة منالذهب مع بعض المال لصياغة قطعة مختلفة. لكن محمد الصائغلم يف بوعده.. ظل يماطلها أشهراً، ولا يعيد إليها قطعتها القديمةولا الجديدة حتى طفح بها الكيل. وبعد أن انتهينا من تعبيد باحةالمنزل نادتني إلى داخل الغرفة، وبهمس، لئلا يسمع صدام،أخبرتني بالحكاية وكلفتني بالذهاب إلى الصائغ والتفاهم معهومنحه مهلة ثلاثة أيام قبل أن تلجأ إلى القوة. أدرك صدام أن فيالأمر سراً لا تريده خالته أن يعرفه. وحين خرجت لحق بي وحاولاستدراجي لأخبره بالحقيقة. فأخبرته، لكنني رجوته أن يمنحنيالفرصة لحل الموضوع سلماً، فإن عجزت فله أن يتدخل علىطريقت. وافق على الشرط وواصلت سيري وهو إلى جانب. وماإن وصلنا باب الدكان حتى غافلني واندفع بسرعة البرق إلىالداخل وأغلق الباب وراءه. فلم اسمع سوى صراخ محمدوتوسلاته، منادياً أهل الغيرة، صائحا: الحقوني، سيقتلني. ولمتمض دقائق حتى خرج صدام وبيده حفنة من الذهب.
صدام يخسر أولى معاركه الحربية
يتذكر التكارتة أن القبّ) ويلفظ بالجيم المصرية) الواسعوالطويل على نهر دجلة والذي جعله الله بالمصادفة برا منالحصى المتنوع، بجميع الاحجام والاوزان والألوان والاشكال،على امتداد اكثر من كيلومتر، يزدحم كل صيف بالمتفرجينالمشجعين، رجالا ونساء، صغاراً وكباراً، وهم يشاهدون حروب(داحس وغبراء) تكريتية بين جيشين من الأولاد الغزاة المسلحينبأنواع وأحجام والوان مختلفة من المقلاع المحجال) الذي توضعفي طاسته حصاة واحدة او اكثر منقاة بعناية وبخبرة فائقتين،يُفضل منها الذي ما إن يسقط على الهدف حتى يتكسر ويصبحمئات من الشظايا المتناثرة التي تصيب (العدو) في اكثر من جزءمن جسده. والمقاتل الماهر هو الذي يجعل قنابله (الحصوية) تسقط في المكان المحدد لها أمام العدو أو خلفه او الى جانبه. وكان المقاتلون يُعدون مقاليعهم بعناية وفن قبل وقت كافٍ من بدءالقتال. وكان البعض منهم، وخاصة قادة الجيشين، يفاخرونبمتانة المقلاع وبطوله وضخامة (طاسته) التي تحمل ما يعجزالآخرون على حشره فيها.
الجيش الأول هو جيش أبناء قرية العوجا، والجيش المقابل هوالجيش الذي تآلف فيه التكارتة من أبناء ألبو خشمانوالحديثيين.والشيايشة.
ولم تكن المواجهات بين هذين الجيشين مقتصرة فقط على الأولاد،بل إن الآباء والأمهات والاخوة الكبار كانوا يتجمعون، غالبا، فيمناطق آمنة ولكن مشرفة على ساحة القتال، وينخرطون فيالعصبيات المريرة التي تتطور أحيانا لتصبح اشتباكات داميةبالأيدي والارجل، وأحيانا أخرى بالسكاكين وبالمكاوير (عصيفي رؤوسها كتل من القار الصلب)، تحزبا لهذا الجيش او لذاك. ولا أحد كان يعرف سر تلك الحروب وأهدافها ودوافعها. وعادة ماكان يقود الجيشين أصلبُ المقاتلين وأشدهم قسوة وأكثرهم عناداواندفاعا ودهاء، وحماقة أيضا.
كان جيش أهل العوجا يتمترس شمال شاطئ دجلة، من ناحيةحي الحارّة (الساخنة) لحماية ظهره بمنازل الأهل والاقاربالمطلة على شاطئ دجلة من أعلى جبل جعله الله وكأن أحدا قطعسفحه بسكين، في حين يتموضع الجيش المقابل في الفسحةالواقعة ناحية جهة (القلعة) التي يسكنها التكارتة، والتي لا يجرؤأحد من أهل العوجا على السكن فيها، كرها أو خوفا من الغربةالقاتلة. وكثيرا ما كانت تسبق مواجهات النهار مؤامراتٌواستحكامات وتحالفات سرية تجري تحت جنح الظلام،استعدادا لكسر العدو، وايقاع الهزيمة الحاسمة به، وإخراجهمن ساحة المعركة أياما وأسابيع.
في ذات صيف آلت قيادة جيش التكارتة الى خالد فارسالخشماني، وهو أحد ابناء زعماء ألبو خشمان، فيما آلت قيادةجيش أهل العوجا الى صدام حسين، يساعده واحد من أبناءعمومته، هو هزاع فيزي الهزاع.
لجأ قائد التكارتة الى الخديعة. فقد اختبأ خلف خطوط العدو،مبكرا ومن الليلة السابقة، فوزع عددا من أفضل مقاتليه علىخرائب منتشرة في حي الحارة نفسه، ومطلة من أعلى الجبلعلى ساحة المعركة، بعدما أخذوا معهم ما يحتاجون اليه من أكلوشرب.
وحين ابتدأ النزال في اليوم التالي شاهد القائد صدام حسينجيش عدوه قليل العدد والعدة، ومُبعثر الصفوف وقد غاب عنهأفضل مقاتليه الأشاوس، فطمع، وظن أن الحظ قد ابتسم لهاخيرا وأصبح في إمكانه أن يُنزل بجيش عدوه ضربته القاضية.
لكن مساعده الأكثر واقعية، هزاع فيزي الهزاع، شك في الأمروتوقع أن تكون في الأمر خدعة، وحذر رئيسه من الإنجرار الىالوهم، ونصحه بعدم تجاوز الخط الأحمر المتمثل في سور حديقةمقهى حسن الفرحان الذي كان من يتجاوزه إنما يدخل عشالدبابير ويُعد مارقا يستحق العقاب لا على أيدي الأولاد وحسببل الآباء كذلك. لكن القائد غلبته أطماعه وأوهامه، فلم ينتصح،وسخر من مساعده واعتبر نصائحه نوعا من الجبن وعدمالنضوج، فاندفع وراء عدوه فدحره بسهولة وتابعه بحماس، لكنهلم يكد يصل الى الخط الأحمر، وهو سور حديقة مقهى العمحسن الفرحان، حتى حدث ما لم يكن يخطر على بال. فقد هبطعلى جيشه من الخلف جيش آخر من اشد المقاتلين التكارتة واعتاهم واكثرهم اندفاعا وبسالة. في تلك اللحظة ذاتها استدارجيش التكارتة، وقد تراجع عن خبث وتكتيك، وهجم على جيشالعوجة ليشكل الفك الآخر من الكماشة التي أحاطت بجيشصدام من خلفه ومن أمامه، فتُـنزل به هزيمة مدوية ظلت مقاهيتكريت ومنازلهم تتحدث عنها أسابيع، تقرر على أثرها خلع القائدالمهزوم، وتنصيب مساعده هزاع فيزي الهزاع قائدا جديدالجيش أهل العوجة الجديد.
ملاحظات:
نعمان الصميدعي:
في أعقاب اغتيال الحاج سعدون الناصري وتم اعتقال خير الله وصدام وعدنان ولطيف طفاح كانت ليلى الطلفاح تكلفني بنقل ملابس نظيفة والعودة بالملابس المتسخة في رحلات شاقة بالقطار، وكان الذي توسط لي واستحصل لي موافقة على دخولي موقف السراي ضابط الشرطة التكريتي نعمان عبد اللطيف الصميدعي الذي أصبح مدير شرطة بغداد بعد ذلك.
وفي الأشهر الأولى التي أعقبت نجاح أهل العوجا في اقتناص الحكم، دخلت على مدير مكتب الحاج خير الله طلفاح، محافظ بغداد، فهب على الفور رجل نعمان عبد اللطيف الصميدعي، نفسه، ليصافحني ويطلب مساعدتي في التوسط له بمقابلة الحاج لأمر هام جدا. كان نعمان – حسب علمي – مديراً لشرطة العاصمة، وله أخ آخر اسمه عبد الموجود يعمل مديراً لشرطة النجدة، وأخ ثالث اسمه عبد المالك يعمل بائع قماش في تكريت.
وكان الإخوة الثلاثة، أبناء الحاج عبد اللطيف الصميدعي من أشراف التكارتة وأطيبهم وأكثرهم تقوى ومخافة من الله. لم يسمع عنهم التكارتة إلا الخير والذكر الحسن. أخبرني نعمان، على عجل وباختصار، أنه وأخاه عبد الموجود طردا من الخدمة فجأة دون أية أسباب. وبعد مدة علما بأن الطرد جاء بأمر من الحاج خير الله طلفاح نفسه. لذا جاء ليقابله ويلتمس منه العدل، رحمة بأسرتيهما. وعلمت أن الدافع إلى قرار الطرد هو أن بلدية تكريت فرزت قبل انقلاب 17 – 30 تموز مجموعة من قطع الأراضي السكنية في شمال المدينة، لإنشاء حي جديد، وأعلنت عن بيع تلك القطع. فبيعت كلها ما عدا واحدة حجزها صدام حسين دون أن يدفع ثمنها وينجز الإجراءات الرسمية اللازمة لتسجيلها، حسب ما كان متعارفاً عليه. ثم اختفى نهائياً ولا أحد يعرف شيئاً عن مصيره. فعادت بلدية تكريت وأعلنت من جديد عن رغبتها في بيع القطعة المتبقية. ويشاء الحظ العاثر أن يذهب الأخ الثالث (عبد الملك) ويشتري قطعة الأرض (المشؤومة) من البلدية.
دخلت على الحاج وأخبرته بأن نعمان ينتظر السماح بلقائه منذ ثلاث ساعات. فقال: أعلم، وأنا الذي طلبت من مدير مكتبي أن يتركه (مركوناً) إلى أن أطلبه. وحين رجوته بالسماح له بالدخول أمر بإدخاله، وكنت أظن أنه سيستمع إليه ويفهم الحكاية فيأمر بإلغاء قرار الطرد. لكنه فور دخوله انهال عليه بالإهانات من كل نوع ومن كل وزن، زاعماً أنهم من أراذل أهالي تكريت وجبنائها، طالباً مني أن اشهد وأن أؤيد شتائمه، وأنا العارف تماماً أنه يفتري. تماسك نعمان، وراح يقص على الحاج حكاية الأرض، وهو واقف، لم يسمح له بالجلوس. قال له: يا حاج، إن قطعة الأرض التي اشتراها أخي لم تكن ملكاً لأحد، ولم يكن معروفاً من الذي حجزها أو أراد شراءها. ثم إن البلدية أعلنت عن الرغبة في بيعها فاشتراها أخي. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنني وأخي عبد الموجود نعمل ونقيم في بغداد ولا نعلم بما يفعله أخونا في تكريت. فلماذا لا تذهبون وتسترجعون منه الأرض وتتركونا مع أسرنا نعيش في سلام، أو على الأقل أحيلونا على التقاعد لنحصل على راتب تقاعدي نستطيع به أن نعيل أولادنا. لم تنفع المرافعة، بل زادت شتائم الحاج وسخريته الجارحة. فما كان من نعمان إلا أن تعوذ بالله من الشيطان ولاذ بالصمت وخرج مكسور الخاطر، وأنا ساكت لا أدري ماذا أفعل.
بداية علاقة صدام بالحزب
صدام لم يكن في وارد التفكير بالانتماء إلى الحزب قبل عام1959. فقد كان لغاية عام 1958 يضيق بنا، نبيل نجم وعدنانخير الله ونزار الناصري وأنا، حين نتحدث عن الحزب والسياسةوهمومها. وأستطيع أيضا أن أحدد بدقة تاريخ دخوله إليه فيأوائل عام 1959، وهو ابن الثالثة والعشرين، نصيراً متدرباً. ثمكُلف، حتى قبل أن يصل إلى درجة نصير، بأن يشارك في أخطرعملية مصيرية يقدم عليها الحزب، وهي محاولة اغتيال الحاكمالأوحد عبد الكريم قاسم. وعملية خطيرة من هذا النوع تفترضالسرية الكاملة، وأن يكون القائمون بها على درجة عالية جداً منالثقة بالحزب، ومن ثقة الحزب بهم كذلك.
وفجأة وجد (النصير المتدرب) صدام حسين نفسه بين أعضاءأعلى قيادةٍ حزبية، يجالسهم، يأكل معهم، يقتسم معهم شقةصغيرة، فيسمعهم ويراهم ويتأملهم عن قرب، وقد تحلل الواحدمنهم من قناع القيادة وتبسط وتصرف بتلقائية، فظهرت عيوبهالإنسانية، خصوصاً حين يكون يافعاً لم يتجاوز العشرينيات إلابقليل.
في تلك الأيام القليلة، وفي الأيام التي تلت فَشَل خطة الاغتيالوالهرب إلى سوريا والإقامة فيها في شقق حزبية مع القياديينأنفسهم الذين عاش معهم أيام التحضير للعملية، ومع قياديينآخرين هربوا خوفا من العقاب، كان طبيعياً أن يطلع صدام علىخلافات هؤلاء وصراعاتهم. هنا أدرك صدام هشاشة أغلب أولئكالقادة وانحراف أخلاق بعضهم وجبن بعضهم الآخر.
لكنه أدرك أهمية هذه الرفقة، باعتبارها الفرصة الذهبية الوحيدةالتي تنعش إيمانه بقيمته وأهميته وبخطأ خاله خير الله طلفاحالذي اعتبره فاشلاً لا يصلح لشيء أكثر من الخدمة في منزلالخال، ورعاية النساء في غيابه. لقد حسبها صدام بوضوح: ماذالو تمكن حزب البعث من أن يقتنص السلطة في العراق؟ إنه بكلتأكيد سيحصل على مركز مرموق في الدولة. وما ضاعف فيخياله الأمل أن أعضاء القيادة الذين أصبحوا رفاقه وأصحابه،سيحكمون العراق ذات يوم، الأمر الذي يضمن له مقعداً فيالحكومة، وهو أقصى ما يحلم به، بعد أن ترك دراسته ويئس منالحصول على الوظيفة بالطرق الاعتيادية المألوفة.
وفي عام 1963، تمكن أعضاء القيادة القطرية الجديدة مناقتناص السلطة. وكان المؤتمر القطري الذي تمخضت عنه هذهالقيادة قد دان عملية الاغتيال في آب/ أغسطس 1960، واعتبرهاخرقا لعقيدة الحزب. فلم يجد صدام، العائد من القاهرة فيآذار1963، التعويض الذي كان يحلم به من الرفاق الذينيعتبرهم أدنى منه شجاعة، وأقل أحقية في تبوّء المراكز المهمة فيالحزب والسلطة. فقد أهملوه وأهملوا معه رفيقه أحمد طه العزوز،إذ تم تعيينهما عضوين في المكتب الفلاحي التابع للحزب، فيشقة صغيرة ضيقة في مبنى بسيط مقابل مبنى الإذاعة. وهيوظيفة تافهة وهامشية إلى أقصى حد. وكان صدام يشكو منذلك ويعلن عداءه للقيادة الجديدة ونقمته عليها.
كانت تلك الفترة من أكثر الفترات التي كنا نلتقي فيها. كانينتظرني في مكتب الجمعيات الفلاحية إلى أن أنتهي من عمليفي الإذاعة ثم نلتقي. فنبقى في الشقة نفسها ونطلب غداءنا أوعشاءنا أو نذهب إلى أي مكان آخر. كنت أستطيع أن أتدبر لهإذنا بدخول الإذاعة لزيارتي وانتظاري إلى أن أنتهي من العمل،لكنه كان يتفادى ذلك، خصوصاً وأن علي صالح السعدي (أمينسر الحزب ونائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام) كان يتردد أحياناعلى الإذاعة، وصدام يكره الالتقاء به.
في قاعة الخلد:
حضرت ذات مرة لقاءً ساخناً بينهما بالمصادفة. ففي حفل كانمقاماً على قاعة مسرح الخلد ببغداد برعاية أمين سر القيادةالقطرية نائب رئيس الوزراء وزير الإعلام علي صالح السعدي،كنت المذيع المكلف بنقل فقراته إذاعياً وتلفزيونياً وعريفه أيضاً.وبعد أن قدمت مطربا، توقعت أن لا ينتهي قبل ساعة على أقلتقدير، أردت أن أستريح وأن أتمشى قليلاً في حدائق القاعة.فوجئت بصدام وأحمد طه العزوز يقفان على جانب سلم مدخلالقاعة، يتسكعان ويتفرجان على الداخلين والخارجين. وقفتأسلم عليهما وأتبادل معهما الحديث، فإذا بعلي صالح السعدييخرج من القاعة في تلك اللحظة مغادراً قبل انتهاء الحفل الذييرعاه. وحين شاهَدنا استدار واقترب منا مؤنباً ومعنفاً ومتهماًإيانا بقلة الأدب والتحرش بالنساء. أما أنا فقد اعتذرت منه،وهممت بالعودة إلى داخل القاعة، أما صدام فقد تصدى بهدوءبالغ لأمين عام حزبه علي السعدي وفاجأه متحديا: ذا لم تخرسوتنقلع من هنا فسوف أهينك على مرأىً من حراسك وبقية الناس. ورغم ما كان معروفا عن صلابة السعدي وعنفه فقد صمت بضعثوان أظنه حسبها مع نفسه ففضل تلافي الفضيحة، ثم استداروغادر المكان دون كلام. بعدها عاتبت صدام لأنه أشركني فيموقف التحدي والمشاكسة وعرضني للفصل من وظيفتي. فردعلي ساخراً مني ومن القادة (لجبناء) الذين أخشى أذاهم. وكانلا يتوقف عن السخرية من علي السعدي ومن أعضاء آخرين فيالقيادة وينعتهم بالجبن والنفاق.
ردة تشرين 1963:
كان طبيعياً ومنطقياً أن ينخرط صدام في أي عمل ينال من تلكالقيادة التي أهملته ونسيت بطولاته وتضحياته النادرة.
فقد شارك بفاعلية وحماس في الانقلاب الذي ما يزال البعثيونيعتبرونه عملاً خيانياً ويطلقون عليه اسم(ردة تشرين)، الذي قامبه عبد السلام عارف والعسكريون البعثيون، طاهر يحيى ورشيدمصلح وأحمد حسن البكر وحردان التكريتي، ضد قيادة الحزبوالحرس القومي.
بلغ الصراع درجة عالية من التوتر، وبدأت عناصر حزبيةوعسكرية تتسلل ليلاً إلى القصر الجمهوري للاجتماع بالبكروعارف وطاهر يحيى وتنقل لهم ما كان يدور في الاجتماعاتوالمؤتمرات الحزبية وما تطالب به قواعد الحزب وقياداته الدنيا“وكان في رأس قائمة هؤلاء المخبرين صدام حسين التكريتيوطه العزوز وطارق عزيز وحسن الحاج ودّاي العطية وآخرون“(26).
وبتاريخ 15 تشرين الأول1963، تم اعتقال أعضاء المكتبالفلاحيي، وصدام أحدهم – كما أسلفت – باعتبارهم أعداءالحرس القومي. وبعد ثلاثة أيام، أي في 18 تشرينالثاني1963، عنسّبه حردان التكريتي مشرفاً سياسياً علىالإذاعة، كما عين ابن خاله عدنان خير الله طلفاح آمراً لقوة حمايةالإذاعة.
وبعد أن سيطرت قوات الانقلابيين على دار الإذاعة بدأ صدامالتكريتي وطارق عزيز يوجهان البرامج ويذيعان النداءات باسمالقيادة القومية مطالبين البعثييـن بالكـف عـن المقاومة، والتعاونمع الحكم الجديد.
كان يزورني هو وعدنان خير الله في غرفة المذيعين، يومياً،ويقضيان معنا ساعات تعرّفا خلالها إلى بعض المذيعين وأسلوبعملهم. وكان صدام يتطوع فيطلب الطعام للموجودين من مطعمقريب من الإذاعة. إلا أنه لم يمكث طويلا في الإذاعة. فجأة غابهو، وانقطع عدنان عن الزيارة اليومية للمذيعين، ثم علمنا بعدذلك بأن عبد السلام عارف قد انقلب على حردان وأحمد حسنالبكر وطردهما من السلطة، الأمر الذي لم يترك لصدام خياراًسوى الهرب والاختباء. أما عدنان فقد نقل إلى موقع آخر.
بعد 30 تموز 1968
حين حدث انقلاب 17 تموز، كنت في مهمة إذاعية خارج العراق. وحين عدت بعد ذلك بأسابيع وجدت أن هاتف منزل خير اللهطلفاح قد تغير، وعلمت أيضاً أن صدام يعمل في القصرالجمهوري، ولكن لا أعلم ماذا يفعل. وكل ما توقعته أن يكون فيأمن الرئيس أو أحد أفراد حمايته.
هاتفت القصر الجمهوري وطلبت الحديث مع صدام حسين التكريتي، فرد علي بسرعة وحرارة وأريحية أكثر من ذي قبل. وفسرت ذلك بحالة السرور التي أدخلها عليه موقعه الجديد. وكان كل ما كنت أطلبه منه هو رقم الهاتف الجديد لمنزل الخال. وبالفعل سارع إلى البحث عنه وإملائه علي.
بعد ذلك بمدة غير طويلة طلبني الصحاف إلى مكتبه وقال: انتظر مكالمة هاتفية خاصة. دقائق ودق جرس الهاتف، وحينرفعت السماعة جاءني صوته، فقلت:
أهلا أبو عدي . ففوجئ وقال: من؟
قلت: إبراهيم.
فسأل مرة أخرى: إبراهيمنا؟
قلت: هو ذاته.
فطلب مني أن أتعرف على شخص يريد رؤيتي اسمه سعدونشاكر. وحدد هو الموعد في مقهى في شارع السعدون، وأعطانيأوصافه، والعلامة كانت أنه سيدخل وهو يداعب سلسلة مفاتيح. وفي الموعد تم لقائي بسعدون شاكر. سألني عن تفاصيل أخرىعن التقرير. فاستغربت وسألته عن أي تقرير يتحدث؟ فقال: التقرير عن الدبابات والأكراد. سألته مرة أخرى: هل تقبلونتقريراً حزبياً من غير واحد غير حزبي؟ فصعق وقال: هل أنتغير حزبي؟ قلت: نعم. قال: إذن ما سر علاقتك الحميمة بأبوعدي؟ قلت: تلك حكاية طويلة. وانتهى اللقاء، ولم يكلمني بهذاالموضوع ثانية لا هو ولا أبو عدي.
“عزيزي المستمع“
من المسلمات الثابتة في العمل الإذاعي أن المادة الكلامية هيالمادة التي تحظى بأقل نسبة مستمعين بين باقي ألوان العملالإذاعي. وتختلف نسب ارتفاع أو انخفاض عدد مستمعي كللون من البرامج الإذاعية، من بلد إلى بلد ومن زمن إلى زمن ومنظرف إلى ظرف. لكن لكل قاعدة استثناء. وأعترف أن برنامج(عزيزي المستمع) لم يكن شيئاً خارقا. لكنه كان يدهش المواطنينبما يثيره من هموم وأفكار ومشاكل يحبسونها ولكنهم لم يتعودواعلى سماع من يجرؤ على التصريح بها في الإذاعة.
حاولت أن أستخدم لغة سهلة بسيطة صادقة ساخنة. كانت كلحلقة تثير موجة عاصفة من الردود. فيصب بعضهم علي حقدهوغضبه، ويتوهم بعضهم الآخر أنني بطل مغوار تخطى حدودالمسموح به من السلطة. والحقيقة هي غير ذلك. فكل الحكاية أن النظام الحاكم، وهو جديد في السلطة، كان في حاجة يومهاإلى بالونات توفر له تحقيق نوع من التفريغ لدى المواطنين..
بدأت بتقديم (عزيزي المستمع) بعد نكسة حزيران 1967، ولميتوقف لغاية عام1973 ، وقد تكرمت عليّ إذاعة إسرائيل وإذاعةالشاه من الأهواز أكثر من مرة بشتائم احتفظتُ بتسجيلات منهاإلى أمد قريب. كما تلقيت عشرات من رسائل التهديد منمجهولين. وأذكر أنني سخرت ذات مرة من إحدى تلك الرسائلالتهديدية، فاتصل بي صدام حسين (شخصياً (وكان نائباًللرئيس، وطلب مني عدم الإشارة إلى أي تهديد، وقال: إننا نتلقىكل يوم مئات من الرسائل ومن المكالمات الهاتفية التي تحملتهديدات الناس لنا بالموت، ولا نرد.
السيد النائب:
بعد مدة زارنا صدام حسين واجتمع برؤساء أقسام الإذاعةوالتلفزيون في الصالة الكبرى الواقعة فوق الكافيتريا. كان مايزال في أول السلم ولا يفقه شيئاً من أمر الاجتماعات وغيرمعروف من أغلب الناس. لكنه كان عازماً على مباشرة طريقصعوده نحو القمة. كان يشغله آنذاك أمران: الأول حمل الناسعلى اعتباره الرئيس القادم، ومعاملته بما يليق بهيبة الرئيس،وهذا لا يأتي إلا بالمزيد من الجدية والصرامة والعبوس وتصنعالوقار. والثاني عكس ذلك تماما. إغراء الناس بحبه والتعلق بهكمنقذ ومخلص طيب القلب يعطف على الصغير قبل الكبير،ويساعد الضعيف قبل القوي.
بدأ الاجتماع بطلب منه بأن ينطلق الحاضرون في عرض مشاكلالإعلام والعقبات التي تحول دون انطلاق مسيرة إعلامية مزدهرةناشطة. وألح على ألا نتهيَّب أو نتردد في المصارحة، باعتبارناخبراء وصناع القرار في مجال الإعلام – على حد قوله -.فنهضرمضان قاطع، وكان يومها رئيساً لقسم الريف في الإذاعة،وبعثياً، مستجدا فخاطب صدام قائلاً،: أبو عدي. فرد عليه صدامبغضب: لستهنا ( أبو عدي). فقال له: رفيق صدام. فرد عليهبضيق: لسنا في اجتماع حزبي لتناديني بـ(رفيق) فاحتاررمضان وقال له: أستاذ صدام. فرد عليه: أنا لست أستاذا. وازداد ارتباكه وحيرته، وهنا بادره محمد سعيد الصحاف قائلا: قل السيد النائب، فقال رمضان: سيادة النائب. ، وهنا رد صدامبابتسامة خفية: تفضل.
اللقاء الأخير
في شتاء عام 1973، طلبني الصحاف لأمر هام، وحين ذهبتلأراه وجدت على مدخل مكتبه رجالا مدججين بالسلاح لا تستقرعيونهم على مكان، يراقبون كل شيء. ف فهمت على الفور أنمسؤولا غير عادي يقوم بزيارتنا ذلك اليوم. دخلت عليه كعادتيفإذا بي وجهاً لوجه وعيناً بعين مع صدام حسين. تراجعت وأردتأن أغلق الباب ورائي، لكنه دعاني إلى الدخول. وأنا في طريقيإليه كنت أفكر بالصيغة التي أسلم بها عليه. هل أناديه (أبوعدي) ؟، قد لا يحب أن أظهر أمام الصحاف تلك الألفة التيكانت بيننا. هل أناديه (السيد النائب)؟ قد يظنني أنافقه. هلأناديه: أستاذ صدام؟ ربما سيظن أنني أتهرب من مناداته بـ(سيدي) ترفعاً وكبرياء؟ كل هذا دار في رأسي في تلك الثوانيالقليلة وأنا في طريقي من باب مكتب الصحاف إلى حيث صداميقف ويمد يده استعداداً للمصافحة. ألهمني الله أن أسلم عليهبصيغة وسط لا تغضبه ولا تحرجني. قلت: السلام عليكم. فصافحني وجلس وجلست. راح يسألني عن الحال والعملوالأولاد والأهل في تكريت. كان يحادثني وعيناه تدوران يميناًوشمالا. وكلما التقتا بعينيَّ يبعدهما بسرعة. لقد كانت دقائقثقيلة مملة طويلة. نهضت واستأذنت بالانصراف بحجة أنني لاأريد أن أشغله أكثر، وقد يكون لديه حديث خاص مع الصحاف، وخرجت.
كنت في غاية الارتباك. فقد أحسست بما لا يقبل الشك أنه لايطيقني ولا يريد رؤيتي. ثم تداعت في نفسي ذكريات الماضيكلها. أيام الشقاوة والجوع والفراغ والشقاء. وتأكدت من أنه لايريد أن يلتقي بواحد من رفاق طفولته يذكره بحكاياته الكثيرةالتي لا تليق بمن أصبح ثاني رجل في الدولة، ويخطط ليصبحالأول والوحيد.
في تلك الساعة بالذات قررت أن أرحل عن العراق، بأي ثمن وعنأي طريق. وهكذا كان.