23 ديسمبر، 2024 1:44 ص

صدام العصي على الغياب

صدام العصي على الغياب

 في بداية الثمانينات كان هناك قسما داخليا في جامعة الموصل شيد في عهد الزعيم قاسم وقبل ان يبدأ العام الدراسي تم صبغ القسم وعلقت على مدخله لوحة نحاسية تقول شيد في عهد الرئيس القائد صدام حسين ،تكرر هذا الامر كثيرا مرات ومرات وفي كل مكان حتى وصل الى اثار بابل رغم الادراك ان ذاكرة الناس ادق من دفاتر التسجيل العقاري ، هذا هو السلوك الطبيعي والسوي لكل من يتقلد سلطة ، يحاول جاهدا ان يخلد نفسه وان يترك اثرا يذكر الناس به وباي طريقة حتى لو كانت غير شرعية ، تلك خصلة مشتركة عند كل الكائنات فالاسود تقتل اشبال غيرها لتترك بصمتها في رحم اللبؤة الام .
طبعا كان لصدام مايذكر الناس به ولكن دائما ووفق الهوى نرى شيئا ونغمض العين عن شيء اخر فبعضنا يتذكر صدام كلما مر على الجسر ذو الطابقين شاهدا على البناء واخرين يتذكرونه كلما مروا على جسر الائمة شاهدا على وحشية صدام وشعبته الخامسة والبعض يتذكر برج بغداد فيما يتذكر اخرين نقرة السلمان ، لكن في العموم لايمكن انكار ان الرجل حقق شيئا وترك بصمته ، بصمة جميلة ناعمة في مخيلة البعض وعلى ارض الواقع وبصمة بربرية على اخرين هم الاعم الاغلب وعلى الارض والحرث والنسل والحجر .
لم يستطع محبو صدام ولا كارهوه ان ينصفوا الرجل ويعطوه حقه ، حقه الذي يستحق بخيره وشره ، محبوه يرونه خيرا مطلق والاخرين يرونه شرا مطلق ، وبالتأكيد هو لا هذا ولاذاك ، صدام كان رجلا كريما ، وهذا حق ، لانه كان يعطي بعض الفلاحين سيارات البيك اب والسيارات الحوضية والجرارات والاسمدة والبذور بسخاء ما بعده سخاء ولكنه ايضا كان بخيلا ، يمنع كل هذا عن فلاحين اخرين ويمنعهم حتى من زراعة نوع معين المحاصيل اشتهروا به لانه يعود عليهم بربح جيد . كان فعلا طير السعد ، كما اطلق عليه حينها ، وان كان طيرا مزاجيا ،مازلت اتذكر هذا الرجل الذي تطوع في الجيش الشعبي فأثار انتباه صدام بهتافاته وانتبه لكبر سنه ، فقرر اعفاءه من التطوع ومنحه شقتين في شارع حيفا لانه كان متزوجا من امرأتين ناهيك عن الاموال التي حصل عليها ، كان هذا الرجل يسكن بيتا من الصفيح ، انقلبت حياته راسا على عقب بلحظة ، فصعب على مثله ان يكره صدام وصعب عليه ان يرى حياة اخرين وهي تنقلب راسأ على عقب ايضا ولكن بصورة معكوسة من امثال اولئك التجار الذين تم اعدامهم وصودرت اموالهم ، لان صدام اراد كبشا يضحي به ليوقف تردي عملته .
ومهما يكن عدد الذين يترحمون على صدام من العراقيين فهم ليسوا الا نقطة في بحر العرب ، والعرب هنا ثلاثة ، اولهم من طالهم كرم صدام ورعايته ، كانوا يتلقون دعوات لقضاء اوقات ممتعة في بغداد ويتناولون افخر الطعام والمشروبات ويعودون محملين بالاموال واحيانا بالكوبونات ان شح المال ، واخرين شيدت لهم مباني ومقرات في بلدانهم ضمانا لسلاسة سيل حبر اقلامهم واخرين كان دخولهم لمبنى سفارة العراق في عمان يعني حصولهم على عشرة الاف دولار في نفس الوقت الذي كنت احصل فيه على دولار واحد شهريا نظير تعليمي لاجيال ، ناهيك عن اموال كانت تدفع بسخاء الى دول وجهات واحزاب ومؤسسات في المغرب العربي . وثانيهم القوميون العرب وهؤلاء لا يمكن ان تجد كلمة تنطبق عليهم اكثر بلاغة من الكلمة العامية التي خلدها السياب ، خطيه ، خدعوا بما كان يقوله لا بل مازال كثير منهم تأخذه العزة بالاثم ، وثالثهم الطائفيون الذين يعترفون ضمنا ان صدام كان ظالما حين يفتخرون انه كان صگار لفئة معينة .
رغم ان صدام صاحب فضل كبير على كثيرين ، الا ان اغلبهم جحد هذا الفضل ، حتى حرسه الخاص عبروا حفاة عرايا نهر دجلة سباحة وتركوه يواجه مصيره ، ربما ندم كثير منهم بعد ذلك واصبح ثائرا بطلا يواجه النظام الجديد وربما وجد افضل وسيلة لتلك المواجهة هي تفجير الاسواق الشعبية ومساطر العمالة ” والمصيبة ان الغالبية العظمى ممن استفادوا من صدام انقلبوا او جحدوا او تنكروا او حاولوا التجاهل والنسيان وتجنب موضوعه ، لكن من تمسك به الى اليوم كم كبير من العرب ، الذين لم ينالهم من صدام مكرمة او عطاء او كوبون ، وهم يعيشون في عالم خاص ، يرفضون معرفة الحقائق ، يسمعون همسات صدام ولا يسمعون صرخات ضحاياه ، وان سمعوها فانهم يطربون !
قطعا، لايهمني ان يغير العرب رأيهم بصدام حسين ، ولا اطلب ذلك من محبيه من العراقيين ، بل بالعكس ادعوهم للتمسك بحبه لكني ارجوهم ان يقدروا ان هذا الرجل فعل بغيرهم الافاعيل ، واتمنى ان لايتذمروا ولا يخونوننا عندما يركبنا الف عفريت حين ياتي ذكره . فلاتكونوا اكثر دكتاتورية منه وتطالبوننا ان نمجد الجلاد ، وسوف نشارككم الترحم عليه ، لا لشيء الا لانه احوج اهل الارض الى الرحمة ،  وندعوكم لمشاركتنا بالترحم على قدواتنا الاحياء فهم لا كصاحبكم لم يتركوا اثرا طيبا في نفس احد وكانوا غربانا يحل الموت متى حلوا ، وان كان صاحبكم عيرنا وعير نفسه بان الطماطة كانت حسرة علينا فان صاحبنا يجد في نفسه صاحب فضل حين قرر ان حصة الفرد تعادل ١٢ الف دينار فزادها الى ١٥ الف ومع انها لاتكفي لشراء صبغ لحذاء حمودي فلاتعدوا عن كونها جعجعة بلا طحن ، ولا اعلم بأي شيء سيخلد نفسه غير العجز والفشل !