قد يرتبك وعي الإنسان العراقي الحبيس بين جدران تصوراته الذاتية وشباك يقينياته الشخصية ، كما قد يتعثر نظام اشتغال أوالياته الادراكية ويضطرب بندول انطباعاته الذهنية ، لجهة استشفاف العلاقة العضوية الكائنة بين أضلاع مثلث مفهوم الهوية: (الشخصية الاجتماعية ، والهوية الوطنية ، والمواطنية الحضارية) ، على خلفية انغماسه بحمى المهاترات السياسية المتطيفة ، وانغماره بسيول الخطابات الإيديولوجية المتعصبة . وهو الأمر الذي أفضى – وسيفضي – إلى مفاقمة أوار صدام الذهنيات المجيشة وصراع العلاقات المستقطبة ، التي عادة ما تتخندق خلف هذا الموقف المبتسر أو ذاك ، وتتمترس وراء هذا التصور الأحادي أو ذاك ، بسائق تنافس المصالح السياسية / السلطوية وتزاحم الارادات الحزبية / الاستحواذية ، بعد أن تكون قنوات التواصل بينها قد بلغت طور الانكفاء الذاتي والقطيعة البينية من جهة ، ومسارات الحوار خلالها قد ولجت أنفاق التنازع في المعاني والتضارب في الدلالات من جهة أخرى . ولما كان الإنسان العراقي المسكون بهاجس الأمن المفقود والمأخوذ بوازع الحاجة المستديمة ، قد أسلم زمام أمره وأسلس قياد إرادته إلى من يعتبرهم علية القوم وسراة المجتمع ، فهو لم يعد يهمه أمر البحث عن معالجات واقعية أو مفترضة تتيح له التعاطي مع ظاهرة الاستعصاء في تشوفه لتخوم معمار هويته الوطنية / العراقية التي لم تبرح ملامحها الضبابية تداعب أطياف مخيلته المفعمة بالأماني الموؤدة والآمال المغيبة . مفوضا”أمر استخلاص ماهيتها وتشخيص تمظهراتها إلى شريحة (الانتللجنسيا) التي – ويا للأسف الشديد – لم تقدّر أهمية هذا التفويض الطوعي واللامشروط من لدن الجمهور العراقي المنتهك حتى في تفاصيل مخياله الرمزي ، لا لكي تبدي قدرتها الفكرية وتستعرض جدارتها المعرفية للقيام بمثل هذه المهمة الحيوية / المصيرية فحسب ، بل وكذلك تشي بالإيحاء لمن تعنيه المسألة بحسن الاختيار الذي بدر عنه وسلامة التصرف الذي أقدم عليه ، مما استتبع حصول هذا التباعد في الشقة بين عالم الجمهور وعالم النخبة ، فضلا”عن تعميق الهوة التي تفصل بينهما أصلا”على خلفية تقاطع الاهتمامات وتخالف المنظورات . ومن هذا المنطلق ، غالبا”ما نلفى ، حين يتعلق الأمر بتحديد مفهوم الهوية وتوصيف عناصرها ، حصول انشطار في توجهات الكتاب واستقطاب بين منطلقاتهم ، للحدّ الذي يتحولون معه إلى ملل متنابذة ونحل متعارضة ، لا تستوحي عوامل التشابه في مرجعياتها لبحث هذه المسألة الإشكالية ، والخلوص ، من ثم ، إلى بلورة نماذج مفاهيمية معقولة على صعيد المجرد / النظري ، ومقبولة على مستوى الملموس / المعاش ، بقدر ما تستنهض عناصر الاختلاف وتستفز مقومات المغايرة ، بحيث لا تتمخض عنها سوى نتيجة واحدة ثابتة وهي الفشل في صياغة رؤية موحدة حتى ولو استعصمت بتنوع مشاربها الفكرية ، والإخفاق في التوصل إلى مقاربات معيارية حتى ولو استلهمت رموزها الإيديولوجية . ولذلك نجد إن فريقا”أول يقرن جوهر الهوية بالعامل الديني / الطائفي ، دون أن يعطي كبير أهمية لبقية العوامل الأخرى ؛ الاجتماعية والثقافية والنفسية التي تشترك جميعها في بلورة ملامحها وتجسيد كينونتها في تضاعيف الوعي الاجتماعي . والملاحظ إن تصورا”كهذا قمين باختزال ثراء تلك الترابطات والاشتراطات الجدلية إلى بعد واحد ، لا يدخل في تكوين خواص تلك الهوية إلاّ بصورة غير مباشرة ، وعبر مسارب ما يدعى (بالشخصية الاجتماعية) – هناك من يحبذ تسميتها بالشخصية المعيارية أو الأساسية – حيث تعتبر هذه الأخيرة بمثابة مرحلة سابقة وضرورية لانبثاق مفهوم الهوية الوطنية . هذا في حين يلزم فريق ثان المفهوم ذاته بأن يشيح عن خواص العامل القومي / العنصري ، ويدلل على أرجحيته في مضمار المفاضلة بين بقية الخواص الأخرى التي يستلزم توافرها ، دون أن يصار إلى إدراك حقيقة إن التورط بانتهاج مثل هذا المنحى / المنزلق الخطر ، سوف لا يؤول فقط إلى تقويض أي مسعى و / أو مبادرة تستهدف بناء الهوية الوطنية على أسس قوية وقواعد راسخة ، تستلهم طبيعة الواقع الاجتماعي وتستوحي مواريث رموزه وفكرياته فحسب ، بل وكذلك تسهم باستفحال شدّة الاستقطابات الجهوية ، وزيادة حدّة الحساسيات الاثنية ، وارتفاع معدل الصراعات الاجتماعية . والواقع إن محنة تصادم الذهنيات ، وبالتالي تبعثر الانتماءات وتذرر الولاءات حول مفهوم الهوية ، سوف تبقى قائمة ، لا بل مرشحة لأن تستولد الكثير من المشاكل وتطرح المزيد من الإشكالات ، إن على مستوى الحاضر وما يتناسل في رحمه ، أو على صعيد المستقبل وما يجيش في أفقه ، ما لم يعاد ترتيب الأولويات المفهومية وتستأنف جدولة الضروريات الإجرائية ، التي من خلالها يتاح لمكونات المجتمع العراقي بلوغ هذا الحلم العصيّ على التحقيق . ولذلك فان أي حديث عن الهوية العراقية ، لاعتبارها (حقيقية جوهرية ثابتة) – كما يشيع البعض – سيبقى محض ادعاء / افتراض لا سند له في الواقع ولا برهان عليه في التجربة ، طالما يجري التهرب من المواجهة القاسية – ولكنها مصيرية – مع واقعة إن مفهوم (الهوية الوطنية) هو بالأساس حصيلة / نتاج تشبّع الجماعات العراقية المتشظية بإحساس الاندغام (بالشخصية الاجتماعية) ، التي لم تفتأ هي الأخرى محض مفهوم مجرد يبحث له عن واقع يقترن به وممارسة يتمخض عنها . وهو ما يستلزم الشروع المسبق بلملمت شعث عناصرها ورتق شقوق نسيجها . أما بغير هذا المسعى وخلاف ذاك السبيل فانه لا جدوى من النقاش حول أهمية الهوية لوحدة المجتمع العراقي وضمان مصيره التاريخي ، كما لا طائل من التغني بفضائل المواطنية التي لا تعدو أن تكون مفردة رائجة من أدبيات المجاملة الدبلوماسية ، لتغطية ممارسات انتهاك قيمها وتمرير صفقات الاتجار باسمها . ولعل هناك ممن غشيه طوفان المفاهيم
والمصطلحات ذات الوقع المميز في نفوس وعقول من أضناهم الشوق إلى إثبات جودهم الاجتماعي وتأكيد حضورهم السياسي ، بحيث تخالطت في ظنهم المقاصد وتلابست في تصورهم الغايات ، وهو ما قد يسوقهم إلى اعتبار إن كلا مفهومي (الهوية الوطنية) و (الشخصية الاجتماعية) ينتميان إلى حقل دلالي واحد ، وهما ، بالإضافة لذلك يفضيان إلى معنى سيميائي مشترك ، وان الفارق الذي نزعم وجوده بينهما لا أساس له في الواقع . وهنا يضطرنا موقف كهذا إلى إيضاح إن مبدأ الهوية يقوم على أساس الوعي بالآخر ، ولولا حصول مثل هذا الوعي – ليس على مستوى الفرد فقط وإنما على مستوى الجماعة كشرط أساسي – لانتفت الحاجة / الضرورة لوجود الهوية أصلا”. ولهذا فقد أشار أستاذ الاثنولوجيا في جامعة السوربون (دنيس كوش) إلى أنه (( ليست هناك هوية في ذاتها ولا حتى لذاتها وحسب . الهوية هي ، دوما”، علاقة بالآخر . بتعبير آخر ، الهوية والآخرية متصلتان ، الواحدة بالأخرى ، وتجمعهما علاقة جدلية . إن التماهي يتوازى مع التمايز ))(*) . وإذا ما استوعبنا حقيقة إن مبدأ (الوعي بالآخر) القائم على معايير التفارق القومي والتغاير الاجتماعي والخالف الحضاري والتناشز الثقافي ، لا يتم تلقائيا”وبصورة اعتباطية خلافا”لدوافع (القصدية) بالمعنى الهوسرلي – نسبة إلى الفيلسوف أدموند هوسرل ، أحد أبرز مؤسسي الفلسفة الظواهرية- لمجرد إن عضو معين في مجموعة اجتماعية ما يختلف حضاريا”ويتمايز ثقافيا”عن نظير له في مجموعة اجتماعية أخرى . وإنما يفترض ، على نحو مسبق ، تحصيل مبدأ (الوعي بالذات) أو الشعور (بالأنا الجمعي) ، من منطلق انه يتعذر على المرء بلوغ مرحلة الوعي بالآخر قبل أن يجتاز عتبة الوعي بالذات . بمعنى إن معرفة الذات هي شرط مسبق / أولي لمعرفة الآخر ، وهو ما لا يتاح لنا تحقيقه إلاّ عن طريق بناء (الشخصية الاجتماعية) التي تشترط ، بالإضافة لذلك ، استكمال معايير التوافق القومي والانسجام الاجتماعي والتجانس النفسي بين مكونات الجماعة الوطنية . بعبارة موجزة نقول ؛ انه إذا كان مفهوم (الهوية الوطنية) يشترط مسبقا”، لكي يستوفي معناه المفهومي ويستكمل مبناه الدلالي ، حصول تراكم ناجز في مقومات (الشخصية الاجتماعية) ، على وفق مستلزمات الضرورة التعاقبية . فان هذه الأخيرة ، بالمقابل ، لا تشترط مثل هذه الضرورة لكي يكتمل نصابها وتتبلور بنيتها ، إلاّ وفقا”للسياق التزامني الذي يجمع بينها وبين المفهوم الأول ، من حيث كونها متضمنة فيه وصادرة عنه . إذ إن المجتمع الذي يتمتع أعضاءه بحيازة مناقب (الهوية الوطنية) لابد أن يكون قد تخطى مرحلة بناء (شخصيته الاجتماعية) ، إن لم يكن ولج حقبة إنشاء (المواطنية الحضارية) . في حين إن المجتمع الذي لم يبلغ أعضاءه بعد مرحلة الإحساس (بالهوية الوطنية) ، لا مناص له من الوقوع على مفترق احتمالين ؛ إما أن يكون في طور إعداد وانضاج مكونات (الشخصية الاجتماعية) ، وهو ما يرجح إمكانيات ظفره ، إن عاجلا”أو آجلا”، بفضيلة (الهوية الوطنية) بأقل التكاليف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية . وإما انه لا يزال – كما هو حال المجتمع العراقي – يتخبط ضمن إطار فوضى نعراته القبلية واستقطاباته الجهوية من جانب ، وصراع ولاءاته الطائفية وانتماءاته العنصرية من جانب آخر . من هنا نعتقد إن الدعاوى الرامية إلى حضّ العراقيين وحثهم للتمسك بعروة (الهوية الوطنية) ، والانصراف كليا”عن القيام بأي محاولة تستهدف التحقق من وجود مقومات فعلية (للشخصية العراقية) ، تحت وطأة الاحتكام إلى المسلمات العرفية والقطعيات الاعتقادية ، هي دعاوى تستهدف إطالة أمد التحديق في سماء اليوتوبيا ، بدلا”من الدعوة للحفر في طبقات السوسيولوجيا ، والهروب إلى الأمام بغير دليل مأمون أو وجهة معلومة ، بدلا”من مواجهة الواقع بمعاول النقد ومشارط التحليل ، والاكتفاء بتضميد الجروح النازفة ، بدلا”من بتر الأعضاء الفاسدة . فالأولى أن نشرع بإزالة ركام الموروث التاريخي المؤسطر وازاحة ترسبات الطمى الحضاري المؤمثل ، العالق في الذهنيات المتعصبة والمتوطن في النفسيات المتطرفة ، والذي لم يبرح يعيق تكوين (الشخصية العراقية) على نحو سليم وخال من العقد الطائفية والمخاوف العنصرية والهواجس الجهوية والحساسيات القبلية ، ويتيح ، من ثم ، لعناصر (الهوية الوطنية) التعافي من الأمراض السوسيولوجية التي لم تبرح تنخر في أسسها ، والتحرر من الأغلال الانثروبولوجية التي لم تفتأ تغلّ إرادتها . بقي لنا أن نضيف ملاحظة أخيرة بخصوص الضلع الثالث للهوية (المواطنية الحضارية) ، التي يجمع الغالبية العظمى على أنها من بنات أفكار التجربة الليبرالية / الديمقراطية ، وهو رأي صحيح ولا غبار على صدقيته . بيد إن القول في هذه المسألة على صعيد التنظير الفكري المجرد شيء ، ومكابدات الخوض في ملابساتها على مستوى الواقع الفعلي الملموس شيء ثان تماما”. فكما سبق ولاحظنا فان هذا المعطى الحضاري يعد تتويجا”لصيرورات (الشخصية الاجتماعية) و(الهوية الوطنية) وسيرورات تفاعلهما في المجتمع ، على اعتبار إن إحساس الفرد بمواطنيته هو بمثابة إعلان حصوله على سمة المرور من طور الطبيعة الفجة وما تفرزه من نزعات عدوانية واعتقادات خرافية ، إلى طور الثقافة وما ينتج عنها من أنسنة للطباع وعقلنة للنوازع وشرعنة للدوافع . بعد أن تهيأة له كل عوامل هذا التحول النوعي الهائل ، وتيسرت امامه جميع سبل تلك الفضاءات المناقبية الواسعة ، عبر انخراطه بشعائر التطهر من آثام عصبياته البدائية ، والتحرر من قيود مرجعياته التحتية (= شخصيته الاجتماعية) من جهة ، والانغماس بمظاهر التشارك السياسي والتكامل الاجتماعي والتكافل الاقتصادي والتواصل الثقافي (= هويته الوطنية) من جهة أخرى . ولهذا فانه لمن السذاجة الاعتقاد بان الديمقراطية سوف تعطي أوكلها في مجتمع لا زال أغلب أعضاءه يفتقرون لطعم الاحساس (بالشخصية الاجتماعية) ، وما انفكت معظم مكوناته تعاني انعدام الشعور (بالهوية الوطنية) ، وما برح الجميع يعاملون كرعايا يجهلون قيمة التمتع ( بالمواطنية الحضارية) . وما الديمقراطية ، في المحصلة النهائية ، إلاّ هذه السبيكة الإنسانية المتمخضة عن جدل العلاقة القائم بين أضلاع كينونة مفهوم الهوية ذاته .
(*) دنيس كوش ؛ مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية ، ترجمة الدكتور منير السعيداني ، ( بيروت ، المنظمة العربية للترجمة ، 2007 ) ،
ص 154 .