تعلمنا النصائح والمواعظ التي نسمعها -علاوة على التجارب التي نعيشها- فضل السكوت في بعض الاحايين على الكلام، وما أظن أحدا منا لم يمر بظرف ندم فيه على كلمة نطقها، وتمنى لو كان قد أطبق عليها فمه، فكثير منا وقع يوما ما في مطبات التسرع والاستعجال، ذلك أن بعض المواقف تستوجب منا التمسك بالصمت، قبل التفوه بتعليق او إبداء رأي أو إضافة معلومة. واللبيب الذكي منا من يدرك هذا قبل أن يتكلم، ويكون لديه حدس وتحسب من باب (الأحوط وجوبا) أن التسرع بإطلاق اللسان في حكمه بما يشبه الضغظ على زر (play) له مردودات عكسية وعواقب وخيمة، إذ لطالما وقعنا في شرك ألسنتنا وشر أقوالنا قبل أفعالنا.
ولكن، عندما نصمت في موضع يتطلب منا الكلام بملء أشداقنا، فالأمر حينذاك لايكون صمتا محمودا.. بل هو سكوت منبوذ، وقد قيل سابقا: “اصمت ثم اصمت ثم اصمت ولكن، إياك أن تسكت”. فالسكوت خنوع وضعف وهروب، فيما يعد الصمت محطة يتخللها التفكير والتخطيط، ليتسنى لنا الانطلاق منها بالرأي السديد والكلمة الحق والخطوة الرشيدة، متى ماتطلب الموقف.
مادفعني الى استذكار الصمت والكلام ومابينهما، هو تصريحات مسؤولينا غير الخالية من اتهامات بعضهم بعضا، فيما يخص وضع الأسر النازحة التي تشتد عليها وطأة سوء الحال المعاش، ولا أنسى طبعا دعوات رجال الدين ونداءاتهم، من على منابرهم، إذ مافتئوا في رواحهم وغدوهم يحثون على مؤازرة النازحين، والكلام قطعا يعلو أكثر وأكثر مع صلاة الجمعة والجماعة، ولكن، ما مدى تطبيق الجهات المسؤولة لندءاتهم، وهل تحقق شيء مجدٍ وملموس للنازحين؟
هل تناغمت صيحات المستغيثين مع أفعال المغيثين؟
هل تكافأت اليد الممدودة للعطاء مع اليد المعوزة المتلهفة لاستقبال مايسد رمقها؟
إن النازحين من مدنهم الآمنة يعيشون ظرفا لايوصف بكلمات، ويعجز عن شرح حالهم تصوير فوتوغرافي أو فديوي، مقابل هذا نرى المسؤولين، يتبادلون مواقف الناصح والمرشد والمحفز والواعظ، لإسعاف هؤلاء النازحين، وقد قال “أحدهم” مخاطبا رفاقه مانصه: “أدعو المسؤولين الى الخروج عن صمتهم والمبادرة بإنقاذ آلاف الأسر النازحة بسرعة، لما تعانيه من ظروف قاسية وصعبة للغاية”.
أقول: (صح لسانك مولانا) و (لاعاب حلگك) على هذه التوصية، إلا أن هناك عقدة أراها شائكة زمانا ومكانا في دعوة “المسؤولين” الى الخروج من صمتهم بشأن موضوع النازحين، ذلك أن الأخيرين مضى على مصيبتهم ثلاثة أعوام تقريبا، وصاروا مخضرمين بعد أن مرت عليهم مواسم الحر والقر، بما تجلبانه من حرور وصيهود وزمهرير لايحتمل، وهم بين مفترش فيافي الأرض وقفارها، وبين ملتحف سقوف الهياكل والمدارس ودور العبادة، فضلا عن الذين لقوا حتفهم عطشا وجوعا ومرضا، والذين ماتوا غصة وحرقة على ما آل اليه حالهم. وكان الأولى بالسيد المسؤول الراعي لرعيته استنهاض همم رفاقه لأداء مهامهم، فيما منوط بهم من واجبات مهنية وأخلاقية وإنسانية ووطنية، في ظرف كهذا بحزم وصرامة شديدين، لابدعوة متراخية وكأنها توسل لحضور حفلة تناول عشاء، او مأدبة إفطار شهي، او جلسة سمر، او (گعدة مهر).
وقد استوقفتني في كلمته مفردة “المسؤولين”.. فمن الذين يقصدهم تحديدا؟ أهم القادة العسكريون؟ أم المعنيون في وزارة الهجرة والمهجرين! أم رئيس لجنة إغاثة النازحين -المنحلة-! أم المواطنون الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم لاحتضان النازحين!. فلو استرجعنا الأحداث المروعة التي بدأت في العاشر من حزيران عام 2014، وقارنا بينها وبين ردود أفعال “المسؤولين” تجاهها، لرأينا العجائب في كيفية انزوائهم وركونهم الى ظل الأحداث، متخذين موقف المتفرج على تداعيات وضع النازحين المأساوي يوما بعد يوم، واتساع رقعة المنكوبين مدينة إثر مدينة، تحت وطأة أقدام العصابات الإرهابية. وقد زاد الفساد الطين بلة، بعد وصول السرقات الى لقمة النازح وخيمته وفراشه وغطائه وكرفانه و(مليونه) الذي خصصته له الدولة، فجاءت سرقة النازح كما قال مثلنا: (فوگ الحمل تعلاوة).