19 ديسمبر، 2024 1:05 ص

صحوة القانون في دولة القانون

صحوة القانون في دولة القانون

من مشاهد اللامعقول التي يزدحم بها عراقنا الديمقراطي الجديد هذه الأيام خبرٌ يقول إن مقتدى الصدر رد على سؤال من أنصاره بشأن انضمام عصائب أهل الحق إلى العملية السياسية، فقال، إن “عصائب أهل الحق مجموعة قتلة، لا دين لهم ولا ورع”، ” إنهم عشاق كراسي”.  و”كل من يتبعهم فهو منهم”، وإن “أموالهم بدد، ووجودهم عدد، وسوف يزول”.    
ويذكر أن عصائب الحق كانت إحدى الجماعات المسلحة المنضوية تحت راية مقتدى،  ثم  تبرأ منها، ودعا أعضاءها إلى التوبة و”العودة إلى مركزية مكتب الشهيد الصدر”. وقد دأب أتباع التيار الصدري على تنظيم تظاهرات بعد كل صلاة جمعة، خلال الأسابيع الأخيرة، لتجديد الولاء له، والبراءة من المنشقين. (والمقصود عصائب الحق).
هنا ينسى السيد مقتدى، مع الأسف، أن القتل ليس عيبا ولا جريمة إذا ارتكبته جماعة أو منظمة أو مليشيا، لسنوات، ثم تهتدي إلى طريق الشراكة الوطنية ذات يوم، وتجعل مجاهديها في خدمة الدولة وصاحب الدولة. وربما تخوض الانتخابات النزيهة جدا وتفوز بعدد من مقاعد البرلمان، وتصبح واحدة من الوطنية الديمقراطية، وشريكة مهمة في الحكم الوطني العتيد. ألم يحدث هذا نفسه لجماعة السيد مقتدى؟ ثم ألم يكن قتلة عصائب الحق من أحب المجاهدين لقلبه الرحيم ؟
يجرنا هذا الخبر الغريب للحديث عن حرمة القانون لدى زعيم دولة القانون. فقد زف لنا كبار مستشاريه نبأ الإنجاز الوطني العظيم بضم عصائب الحق إلى العملية السياسية الرشيدة.
يعني أن هذه (المكرمة المالكية) إجازةٌ رسمية للقتل وشرعنة للقتلة، وتحويل (شلاتية) و(عصبجية) إلى جزارين مجازين يرتدون ملابس الحكومة، ليفعلوا بشعبنا، في الغد، ما تفعله شبيحة بشار الأسد بإخوتنا السوريين هذه الأيام.
في الوقت نفسه، أمر المالكي أعوانه بتسريب خبر معاكس يقول: إن ” دولة السيد رئيس الوزراء ينوي تحريك دعاوى قضائية ضد زعيم التيار الصدري تتعلق بجريمة قتل السيد عبدالمجيد الخوئي وتحريضه على العنف الطائفي “.

وقبل المضي أعمق في هذا الموضوع الشائك ينبغي التذكير بأن السيد مقتدى كان قد توارى عن الانظار أواخر عام 2006، ولم يُعرف مخبؤه الحصين في قم إلا  بعد سنتين من اختفائه. ويومها قال أنصاره إن غيابه لغرض الاعتكاف والدراسة، فيما قالت مصادر أخرى إنه هارب من أمر قضائي بإلقاء القبض عليه بتهمة القتل العمد للسيد عبد المجيد الخوئي.
كان بعضُنا يعتقد بأن السيد نوري المالكي يحترم القضاء، وأنه عادل وحازم في احترام القضاء والحرص على استقلاله وعدم التدخل في شؤونه، ولا يفرق بين كبير وصغير أمام سلطة القانون، خصوصا بعد أن شن عمليته الجريئة على أنصار مقتدى في البصرة، والتي أطلق عليها اسم (صولة الفرسان)، في آذار / مارس 2008 لتخليص الناس من شرورهم وتجاوزاتهم وتعدياتهم.
لكنه بعد ذلك، وفي أعقاب إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة في آذار 2010، واقترابه من خسارة كرسي الرئاسة، لجأ إلى السيد مقتدى ونوابه الأربعين لنجدته وإعانته على الإمساك بصولجان السلطة، قبل أن يضيع. فقطع الفيافي إلى قم، والتقى بـ (الزعيم مقتدى)، وحصل على بركاته، مقابل طي أمر إلقاء القبض عليه، وإهدائه عددا من الوزارات الحساسة والمحافظات والمؤسسات والسفارات، مع وعد مكتوب وممهور من السيد رئيس الوزراء بإطلاق سراح العشرات من أتباعه المحكومين، قضائيا، في البصرة، بجرائم مخلة بالشرف، كما يصفها الحقوقيون.
يومها لعن الناس الكراسي، وقالوا إن السياسة لا دين لها، وإن مباديء العدالة وسلطة القانون بضاعة تخضع للمقايضة، أحيانا، وحسب الظروف.
ثم عاد مقتدى إلى الوطن، في أول يناير/كانون الثاني 2011، عودة الفاتحين، ليضع يده في يد حليفه الجديد، علنا، وكأن شيئا لم يكن، وداس المالكي بحذائه جميع التقارير البريطانية والأمريكية والعراقية التي صنفت جيش المهدي بأنه من أخطر الميليشيات التي تستهدف المدنيين في العراق، ومن أكثرها دموية. واتهمته بعمليات تصفية جسدية، وتفجير وحرق مساجد سنية عديدة. كما أتهمت أتباعه بالقيام بأعمال عنف ضد أحزاب شيعية أخرى، في جنوب العراق.
والآن اسمحوا لي بأن أدخل بكم إلى صلب المقال. فلو أسقطنا جميع الاتهامات الأمريكية والأوربية والعراقية، وصدقنا السيد مقتدى نفسَه في قوله بأنها ملفقة تهدف إلى تشويه صورته، ونسينا أو تناسينا كل ما فعله جيش المهدي في بغداد والبصرة وغيرهما، واكتفينا بجريمة اغتيال السيد مجيد الخوئي، ألا يكون هذا كافيا لإلقاء القبض عليه، فور عودته إلى العراق، وإحالته إلى القضاء ليقول فيه كلمة الفصل فيما نسب إليه؟. وإليكم تفاصيل الجريمة.
في عام 2004 قال القاضي رائد الجوحي الذي أصدر مذكرة اعتقال مقتدى، في مؤتمر صحفي نقلته أجهزة الإعلام العراقية والعربية والدولية، إن “أمر القاء القبض بحق مقتدى الصدر كان قد صدر في 20 اب/اغسطس 2003 بناء على قناعات مستندة إلى أحكام القانون”.
وأكد ان “القضية لا تتعلق بالخوئي وحده، بل إن هناك شخصين آخرين كانا معه، هما حيدر الكليدار وماهر الياسري، بالاضافة الى جرح أشخاص آخرين”. وقال إن “هناك عددا كافيا من الشهود أثبتوا ما جرى، بالاضافة الى ذوي المجني عليهم، وبعض المصابين”.
وسرد القاضي وقائع ما جرى للخوئي وجماعته في العاشر من نيسان/ابريل 2003 بالتفصيل، فقال:

 إن “الخوئي وبعد حضوره لأداء الزيارة لضريح الإمام علي في النجف مع وفد جاء معه من الخارج جلس في مكتب الكليدارية، داخل الضريح، عندما تجمع حول المكتب أشخاص كثيرون وهم يهتفون ضده”.
و” حاول الخوئي في بداية الامر تهدئة الموقف بالكلام عبر مكبرات الصوت، لكنهم قطعوا عنه التيار الكهربائي، واستمروا بترديد هتافاتهم ضده، ثم القوا التـُرَب التي يصلون عليها وأحذيتهم على المكتب، وبالتالي تطور الموقف من خلال قيام البعض باطلاق عيارات نار بسيطة رد عليها بطلقتين في الهواء لتفريق المتجمهرين، إلا أن الموقف تغير وانهار عليه وابل من الطلقات”.
” كان مع الخوئي والشخصين اللذين كانا معه قطعتا سلاح فقط، حاولوا بها الرد، لكن رد الاخرين جاء قويا، وأصيب ماهر الياسري الذي كان مع الخوئي، واستمر إطلاق النار لأكثر من نصف ساعة، من عدة جهات، داخل الضريح، حتى وصل الأمر الى قيام أحدهم برمي قنبلة يدوية أصابت الخوئي في يده”.
و “عندما نفدت ذخائر الخوئي وجماعته رفع راية بيضاء للاستسلام، وعند ذلك الحين حضر شخص من مكتب مقتدى الصدر ومعه مكبر صوت فدعا الجميع الى وقف اطلاق النار من أجل محاكمتهم، شرعيا، في مكان آخر”.
ودخل هذا الشخص والاخرون على الخوئي وجماعته وربطوا أيديهم للخلف، ونزعوا عنهم عمائمهم، وأخرجوهم من مكتب الكليدارية، وفور خروجهم فارق ماهر الياسري الحياة بسبب قيام  حشد من الناس بالدوس عليه”.
و” ما إن خرج الخوئي وجماعته من باب القبلة المواجه لشارع الرسول حتى تعرض حيدر الكليدار الذي كان معه لعدة طعنات بالسكاكين، فمات.”
لكن “الخوئي استطاع الوصول الى مكتب الصدر، لغرض إجراء المحاكمة، أو للاستغاثة به، وما إن وصل إلى باب مكتب الصدر حتى تعرض لطعنات قاتلة. وبحسب الشهود فإن الذين أحضروه سألوا مقتدى: ماذا نفعل به؟ فرد عليهم (خذوه بعيدا واقتلوه بطريقتكم الخاصة)، فانهالت عليه الطعنات، ثم سحلوه من الساقين، باتجاه شارع الصادق، حيث أطلقت عليه هناك عيارات نارية مات على أثرها، وُتركت جثته في مكانها”.

هذه هي الجريمة بكل تفاصيلها الموثقة، بالتمام والكمال. لكن، الآن، وبعد كل تلك السنين، وبعد جرائم عديدة أخرى أضيفت إلى سجل مقتدى وأتباعه، كالاعتقال الكيفي والسطو على أملاك خاصة وعامة، ووجرائم اغتيال، وتهجير، وحرق مخازن، وتهريب مخدرات ونفط، وتلاعب بمؤسسات ووزارات، يتذكر نوري المالكي فجأة سجل مقتدى، ويُخرج ملف جريمة اغتيال مجيد الخوئي  من أدراج مكتبه، وينفض عنه الغبار، ويأمر  أعوانه بتسريب خبر صغير يقول: إن السيد رئيس الوزراء  ينوي تحريك دعاوى قضائية ضد مقتدى تتعلق بجريمة قتل السيد عبدالمجيد الخوئي وتحريضه على العنف الطائفي.
طبعا، إن بيان مقتدى الأخير كاف لإثارة غضب المالكي ونقمته. فقد هدد في ذلك البيان بعدم بقائه والآخرين شركاء للمالكي في التحالف الوطني. و حذر من صيرورة الحكومة الى حكومة الحزب الواحد، في إشارة الى حزب الدعوة. واعتبر الأوامر القضائية مسيسة وتشوه سمعة العملية السياسية، وتزيد من عزلة العراق مع جيرانه العرب  .
يضاف إلى ذلك إقدام كتلة الأحرار البرلمانية المنتمية إلى التيار الصدري على تقديم مطالبة رسمية بحل البرلمان وإعادة الانتخابات.
وهذا معناه أن التيار الصدري نفض يده من نوري المالكي تماما، وبدأ يعمل على إسقاطه أو ابتزازه. وأن المالكي أحس بسخونة الموقف وآمن باستحالة ترويض مقتدى وأعوانه، ومنعهم من شق عصا الطاعة.  والخافي أعظم وأمرُّ.
وأغلب الظن أن مقتدى تلقى موافقة طهران على تقزيم المالكي وتهميشه، خصوصا بعد زيارته الأخيرة الانفرادية لواشنطن، وإعلان أمريكا أنه ” لم يعد رجل إيران في العراق”.
وهذا ما يفسر لنا سرَّ الحرص الإيراني الشديد على حل مشكلة الهاشمي بالتي هي أحسن، وعدم تفجير الأمور في العراق، خصوصا في هذه الأيام الصعبة التي تمر بها اليد الإيرانية في سوريا ولبنان وفلسطين، وربما في العراق.
إذن إلى هنا ينتهي دفءُ الربيع بين مقتدى والمالكي، وقد ينتهي أيضا مع المجلس والفضيلة، بعد أن انتهى مع الجعفري من أمد طويل، ليبدأ شتاء العواصف والرعود والأعاصير.
ومن هنا أيضا تبدأ مسيرة العدالة في مكتب رئيس الوزراء، وتعود الحياة إلى القانون في دولة القانون. 
ألم أقل لكم في أول هذا المقال إنها واحد فقط من مشاهد اللامعقول؟
الآن فقط أصبح في إمكاني أن أتنبأ بقرب انقلاب السفينة على ربانها وركابها، بأيدي ربانها وركابها، أنفسهم، وسوف نرى، عما قريب، وجوها عديدة تربع أصحابها على شاشات الفضائيات طيلة السنوات الماضية، وراء قضبان المحاكم، واحدا بعد آخر، بتهم اختلاس وسرقة واعتداء واغتيال وعمالة، وتلقي أموال من دول أجنبية، والتخابر مع جهات خارجية، لتخريب الوطن، وبيعه لأصحاب النيات الخبيثة من الأشقاء والأصدقاء، سواء بسواء. والله على ما أقول شهيد.