طيلة السنوات العشر التي أعقبت نيسان 2003، ونحن نعجز عن فهم سرّ تمكن الإرهابيين والقتلة والخارجين عن القانون من تنفيذ أعمالهم بكثافة شديدة وسهولة ويسر برغم اكتظاظ شوارعنا بالسيطرات الأمنية ورجالها المدججون بالسلاح.. طيلة عشر سنوات كان القتل يطالنا من أمكنة ظنناها محصّنة عصيّة على الإختراق. فسّرنا الأمر ابتداءً بأن أجهزتنا الأمنية حديثة عهد ولا خبرة لها أمام قتلة تكفلت بتدريبهم أجهزة أمنية خبيرة، واعتقدنا ـ لاحقاً ـ أن سياسة المحاصصة وتطويع العناصر العشوائي والفساد الإداري مكنوا بعض العناصر المتآمرة من خرق منظومتنا الأمنية. طيلة عشر سنوات وأجهزتنا الأمنية عاجزة تماماً عن منع سلسلة لم تتوقف من الأيام الدامية حتى لأصبحت الأسابيع كلها أياماً مصبوغة بالأحمر القاني الذي يسيل من دون توقف في شوارعنا وأسواقنا ومحال عملنا.
لعلّ حادث الإعتداء على أربع صحف في يوم واحد من قبل مجموعة واحدة يثير علامة استفهام كبيرة جداً، ويحمل ـ في نفس الوقت ـ إجوبة لأسئلتنا المريرة.. فإذ نتساءل عن حرية انتقال مجموعة كبيرة من المسلحين يحملهم موكب كبير من العجلات المختلفة في مناطق من العاصمة توصف عادة بأنها حصينة أمنية، قد لا نجد سوى إجابتين، الأولى أن جميع السيطرات التي مرّ بها هذا الموكب الكبير متآمرة أو متواطئة، وثانيهما ـ وهو الإحتمال الأقرب ـ أن السيطرات الأمنية المنتشرة لا عمل لها سوى تضييق حركة السابلة وخلق الزحامات في الشوارع، وأن الأوامر التي تعطى لعناصرها لا تتضمن إيقاف المشتبه بهم طالما لا يمثلون تهديداً للسيطرة الأمنية نفسها.. ما يجعلنا نميل إلى هذا الإحتمال أن السيطرة الأمنية القريبة من إحدى الصحف المُعتدى عليها أوقفت موكب المعتدين ثم سمحت له بالمرور بعد تلقيها تأكيدات أن هدف الموكب الكبير (تأديب) صحيفة مارقة!!
في أكثر من رواية، بعضها اختبرناها بأنفسنا، رجال الأمن لا يتدخلون إلا حين ينقضي الأمر. يحدث عراك بين طرفين أمام أعين رجال الأمن فيكتفون بالمراقبة فقط، وقد يتطور العراك إلى قتال يودي بحياة أو جرح أحد المتخاصمين، عند ذاك فقط يتدخل رجل الأمن فيخبر بالحادثة أو يخلي القتيل والجريح. وروى أحد الزملاء ـ مستغربا ـ أنه تبرع ببراد ماء لجامع قريب من محل سكنه.. روى أن الشرطي المسؤول عن حماية الجامع استلم البرّاد من دون يكلف نفسه عناء تفتيشه والسؤال عن هوية الشخص المتبرّع بحجة أنه يميّز الأخيار والأشرار من وجوههم، ولا أدري لم لا يستعان بهذا الشرطي وأمثاله للتعرّف على جميع الأشرار في البلد وإراحتنا وحقن دمائنا المستباحة!!
ما أثاره الإعتداء على الصحف الأربع لا يتوقف عند الجانب الأمني فقط، بل يثير أكثر من غصّة ومرارة. الإعتداء الوقح والسافر في وضح النهار على صحف وصحفيين لأربع وسائل إعلامية مرّ مرور الكرام، ليس من الجانب الأمني فقط كما قد يتوهم البعض، إنما من اللامبالاة من جانب الأسرة الصحفية نفسها. نقابة الصحفيين العراقيين اكتفت ببيان هزيل لا يتناسب مطلقاً مع جسامة الإنتهاك والإهانة، وتغافلت في بيانها عن الإشارة إلى أكثر الصحف تضرراً كونها ليست معتمدة في النقابة ولا تدفع رسوم الإعتماد فضلاً عن عدم زيارتها للوقوف مع زملاء في محنة، متجاهلة عن عمد أنها ليست نقابة للصحف إنما للعاملين فيها، وجلّ الصحفيين في هذه الصحيفة هم أعضاء في النقابة!! أما نائب المدير العام لمرصد الحريات الصحفية فقد قدم نصحيته الذهبية للصحف المُعتدى عليها ـ عبر الفضائية العراقية ـ بأن عليها ألا تركن إلى الانترنيت وأن تتوخى الدقة في نشر الأخبار كي تتجنب ما حصل لها وعلى صحفييها من اعتداء وإهانة!! أما وسائل إعلام كردستان العراق فيبدو أنها لا تعبأ بشيء يحدث خارج الإقليم!!
الأكثر مرارة وإثارة للإستغراب هو موقف بعض الصحف ووسائل الإعلام العراقية التي تجاهلت خبراً بهذا الحجم فلم تتناوله، حتى أن صحفاً أعتُدِي عليها لم تشأ أن تنشر هي خبر الاعتداء عليها ولم تتقدم بشكوى. وعمدت إلى دفن رأسها في الرمال. وكما أن أيّ صحيفة لا تحترم نفسها لن يحترمها قراءها، فإن الصحف الأخرى إنْ لم تقف مع زميلاتها فسوف تعطي الذريعة للإعتداء عليها هي أيضاً ويصبح هدف الصحافة إرضاء جميع الأطراف المتناحرة في البلد لا التحري عن الحقيقة والافصاح عنها بملء القلم.
في مصر، وقفت جميع وسائل الإعلام والعاملين فيها موقفاً واحداً حين اعتقل القضاء المصري الإعلامي (باسم يوسف) وشكلوا جبهة ضغط أسفرت عن إطلاق سراحه بكفالة ليخرج بحلقة جديدة أكثر تعرية للنظام وأشد جرأة. السبب بسيط هنا فقد شعر جميع الإعلاميون إن اعتقال زميلهم ـ مهما كانت درجة تقاطعهم أو قربهم من متبنياته الفكرية ـ موجه ضدهم، في حين وجد باسم يوسف أنه ليس وحيداً في الساحة، فكان المكسب كبيراً لصالح الصحافة والإعلام الحر.. في مصر تقاليد صحفية راسخة أنتجت صحافة حرّة مسؤولة. وفي العراق ما زال الهم فردياً. تُنتهك حرمة صحيفة فتحمد الله الصحف الأخرى على نجاتها، ويغتال صحفي فيلومه زميله لاختياره درب الحرية الوعر المليء بالمخاطر!!
تُنتهك حرمة الصحف بشكل ممنهج وتتم تصفية الصحفيين وإهانتهم والقانون الذي يفترض أنه يحميهم لا يساوي ثمن الورق الذي كتب عليه ولا يستأهل جدلاً عاصفاً وزمناً مرّ ببطء شديد قبل إقراره. قانون حماية الصحفيين ليس بإمكانه دفع الأذى أو الإهانة عن الصحفيين، وسيحول الصحف إلى مجرد أوراق صفر لا يقربها القارئ إلاّ لقراءة صفحة الأبراج والتسالي.
[email protected]