23 ديسمبر، 2024 5:16 ص

صبا المهداوي وأشقيائية زمان

صبا المهداوي وأشقيائية زمان

الشقي وعلى ما جاء في معجم اللغة العربية وفي أحد معانيه، فهو الشخص الخارج عن قانون الدولة والهارب في ذات الوقت من وجه العدالة، هذا بإختصار تعريف مركز ومكثف له. غير انه ومع غياب العدالة التي تزعم الدولة المشي على خطاها والإلتزام بها، وﻷن أجهزتها القمعية على وجه الخصوص طليقة اليد وتستخدمه متى شاءت، لذا وجدت فئة من الناس نفسها مضطرة على إتباع سياسة أخرى قد تقع في خانة (التمرد) الاّ انها تنسجم مع ما تعتقد به وما تفكر. لذا وجدت نفسها وفي بعض من المفاصل والمستويات والحالات، آخذة زمام أمرها بيدها، لتدافع عمَّا تظنه مضطهدا أو ضعيفا أو غير قادر على أن يقف بمواجهة الحيف الذي ما انفك يلاحقها. وعلى أساس من ذلك، راحت هذه المجموعة والذي أصطلح على تسميتهم بالشقاوات وبرضا وقبول وأحيانا تواطئا من سكانها، تفرض أعرافها و(قوانينها) ضمن الحدود الجغرافية التي تقع تحت سيطرتها، كالمحلة أو الحي أو المدينة إن كانت صغيرة. وإذا أن أردنا سرد بعض من هذه اﻷسما،ء فسيبرز وبقوة اسم خليل أبو الهوب وكيف كان يحمي أبناء محلته في منطقة الفضل وما جاورها.
واﻷشقياء ليس كلهم أصحاب نخوة كما قد يعتقد البعض، فهناك قسم منهم مَنْ ارتضى لنفسه لأن يكون أجيرا، مسخّرا قدراته وامكانياته و(استهاتاراته) إن صحَّ القول، للقيام ببعض اﻷعمال التي تتعارض وتتقاطع مع الكثير من اﻷعراف الإجتماعية، وذلك لقاء حفنة من المال، حتى تحول هذا القسم من اﻷشقيائية الى فئة منبوذة، مرفوضة من المجتمع. وهناك أيضا ومن بين هؤلاء مَنْ وظفتهم الحكومات وأجهزتها اﻷمنية لتكون أداة طيعة ورهن اشارتها ومنفذة لتوجيهاتها وما وضعته من أهداف ومتى شاءت، حتى وصل اﻷمر الى قيامها بعدد من الإغتيالات، فضلا عن إتباع مختلف الطرق واﻷساليب إتجاه معارضيها وبما ينسجم وسياسة الدولة والحزب الحاكم، واﻷمثلة على ذلك كثيرة فمنهم على سبيل الذكر جبار كردي وأخيه ستار وآخرين كُثرُ، ولسنا هنا بصدد التوسع في هذا الصنف من اﻷشقيائية.
بعد هذه المقدمة فما يهمنا هنا وما نهدف اليه في هذا المقال هو التحدث عن القسم اﻵخر من الأشقيائية ، والذي درجنا على تسمية الواحد منهم بألــ (أخو خيته) والذي ستجدع واقفا بجانب أخوته، مظهرا معدن الرجولة الحقيقي، فهو المدافع عنهم وعن شرف وأعراض بنات حيّه. ومن بين ما تضمه هذه الفئة مَنْ انحاز وبالمطلق الى صف القوى الوطنية وشاركها في الكثير من المناسبات، ولعلنا قرأنا أو قيل لنا كيف كانوا يتصدرون الصفوف اﻷمامية واﻷولى من المظاهرات،داعيين الى تحقيق مطالب الشعب المشروعة، عدا عن سائر الفعاليات واﻷنشطة الوطنية اﻷخرى. وإذا كان لنا من ذكر لتلك اﻷسماء فسيبرز في مقدمتهم الشخصية اﻷسطورية إبن عبدكه، فضلا عن أسماء أخرى لا تقل حضورا، والتي ما فتئت اﻷجيال اللاحقة تتناقلها وتتحدث عنها بل وتتغنى بها.
قد يسأل سائل وخاصة من أبناء هذا الجيل ونحن في خضم إنتفاضة شعبية عارمة، يخوضها ويقودها ببسالة نادرةشباب العراق وفتيته، عَمَّنْ يكون إبن عبدكه؟ انه وبإختصار ابراهيم حسن ابن عبدكه، وُلِدَ في إحدى قرى ديالى والمسماة ذيابة أواخر القرن التاسع عشر. ويُعد أحد أبطال ثورة العشرين وقادتها في تلك المناطق. ومن بين مآثره التي خلَّدها التأريخ هو تحريره لمدينة بعقوبة من رجس الإحتلال. وكي لا نغمط حق اﻵخرين من أخوة ابن عبدكه ومَنْ يشبهه، فقد أنجبت المدن العراقية من أقصاها الى أقصاها مَن لا يقل حضورا وشجاعة عنه.
وﻷن الإنتفاضة العراقية الحالية تتعرض الى حملة تشويه وتضييق وتصفية منظمة وبإتباع أكثر اﻷساليب قذارة ورخصا، والمتملثة بعمليات الخطف الممنهجة، والتي تقودها وتنفذها جهات مشبوهة، معروفة، مدعومة من الخارج، تحاول أجهزة السلطة وعلى رأسها وسائل إعلامها، التستر والتعتيم عليها وتحت تخريجات مختلفة، غير انها باتت مكشوفة للقاصي والداني ولم تعد تنطلي على أحد والناس يتداولونها على نحو واسع. ومن بين عمليات الخطف الدنيئة تلك ما طال بعض البنات المشاركات في دعم مطالب شعبهم وآخرها ما تعرضت له الناشطة ماري محمد ومن قبلها صبا المهداوي، ولم يكنَّ بعد قد شبعن من حليب امهاتهن، وغيرهن كثيرات قد تعرضن لذات الجريمة الاّ ان بعض الإعتبارت الإجتماعية حالت دون الإبلاغ عن ذلك، علما ان عمليات الخطف هذه قد تمت بمجملها تحت جنح الظلام، ليثبت الخاطفون مرة أخرى مدى جُبنهم.
وإذا ما عدنا بالتأريخ الى الوراء واستذكرنا تلك الحادثة، يوم نجح رجال الثورة العراقية، وقبل قرابة القرن من الزمان وبقيادة ابن عبدكه في خطف القطار الصاعد نحو شمال الوطن وأسر مَنْ فيه، وكان من بينهم المسز بيل وما أدراك مَنْ هي هذه السيدة، فهي العالمة باﻵثار والمستكشفة والمستشارة للمندوب السامي البريطاني، ولها الدور الكبير في تأسيس المتحف العراقي وما يشبهه من مشاريع، وهي مَنْ سمّاها العراقييون بخاتون بغداد، و أخيرا شاءت ذلك أم أبت وبحكم وظيفتها، فقد كانت واقفة ضد تطلع العراقيين في تحرير بلدهم وتحقيق الإستقلال الكامل.
وعن حالة اﻷسر هذه فقد وجد أبن عبدكه صعوبة بالغة في كيفية التعامل والتعاطي معها، لا سيما وهو المدافع عن العرض والشرف وصاحب الغيرة والشهامة، وفي ذات الوقت فإنَّ السيدة بيل تُعَدْ بالنسبة للثورة العراقية صيدا ثمينا، سيمكّن خاطفيها لو أحسنوا التفاوض مع الطرف اﻵخر من تحقيق الكثير من المكاسب، والتي ستأتي بالنتيجة لصالح ثورتهم، غير انه وقف أمام سؤال كبير ومحيّر: كيف له أن يقدم على أسر سيدة عزلاء، لا تحمل سلاحا ولم تدخل معه في أية مجابهة، ولم تنبئ حالتها بما يشي بعدوانيتها. أخيرا وبعد أن دار بين الطرفين نقاشا وحوارا طويلين، يمكن وصفه بالودي، فقد أفضت نتيجته الى أن يتخذ ابن عبدكه قرارا يقضي بإطلاق سراح المسز بيل، ومن دون أي قيد أو شرط، ولتحفظ هذه السيدة في ذاكرتها تلك الوقفة الرجولية التي صدرت منه، ولتظهر نتائجها في ما بعد عندما أصدرت إحدى المحاكم المختصة قرارا بإعدامه، وبتهمة قتله العمد ﻷحد اﻷشخاص، ليُخفف عنه قرار الحكم ويستبدل الى السجن ولمدة خمسة عشر عاما، وذلك بتأثير وتدخل مباشر من قبل السيدة بيل.
وتذكيرا لعصابة الخطف المنتشرة في بغداد ومن وقفات ابن عبدكه وشهامته، وبعد أن أقدم رجال ثورة العشرين في المناطق التي تخضع لسيطرته على قتل أحد الضباط البريطانيين والذي كان مشرفا على مدينة شهربان(المقدادية)، إضطرت زوجة هذا الضابط واسمها زنتون على الهرب والإختفاء في بستان تقع خلف القشلة. وبعد عملية البحث استطاع ابن عبدكه العثور عليها وتسليمها الى الشيخ مجيد، محملا إياه مسؤولية الحفاظ عليها وحمايتها من أي إعتداء، خاصة وانها كانت مهددة بالإغتصاب من قبل البعض.
وعن الشهامة أيضا ووقفة الرجال، وفي حادثة أخرى يتداولها العراقييون على نحو واسع، قيل ان إحدى عصابات السطو نجحت في التسلل الى أحد البيوت البغدادية ظناَ منها وبعد رصدهم لها أن لا أحد هناك. وبعد أن قامت بسرقة ما غلى ثمنه وخف وزنه وقبيل مغادرتهم، إنتاب هذه العصابة إحساسا بالجوع فدخلت مطبخ البيت لتأكل ما توفر وما تسد به رمقها. في هذه اﻷثناء دبَّت حركة في إحدى الغرف غير انهم لم يبالوا للأمر، معتقدين بأن مصدره من خارج البيت، ثم تلا ذلك أن وصل مسامعهم صوت امرأة وبشكل واضح وهي تقول لإبنها: قُمْ يا ولدي وساعد (خوالك). في هذه اﻷثناء ما كان عليهم الاّ أن يتركوا أرضا ما كانوا قد سرقوه، فكلمة (خوالك) قد هزَّت مشاعرهم وأصابتهم في مقتل وجعلتهم يندمون على فعلتهم، ففيها من الدلالة ما يشير الى انها قد (خاوتهم) أي أصبحت أختا لهم، فكيف لهم أن يسرقوها.
لو سألت أهلنا في جنوب الوطن عما استخدمته هذه المرأة في تعاملها مع اللصوص من لغة لقالوا انها الحسجة، والحسجة يقابلها في اللغة العربية الفصحى ما يسمى بعلم البلاغة. واستطاع هذا النوع من اﻷدب من تحقيق أغراضه وعلى مستويات مختلفة وبشكل خاص على مستوى الشعر العامي، فقد رسم من الصور ما ضاهى الفصحى بل حتى فاقها في بعض منه. ففي الحسجة هناك الطباق والجناس وحسن التعليل والتورية. وللخاطفين نقول: هل تحتاجون الى تورية لنختبأ خلفها ونقول لكم وبشكل غير مباشر اطلقوا سراح البنات المخطوفات. أم لديكم من الشجاعة ما يكفي لإطلاق سراحهن والإعتذار لهن دون قيد أو شرط وكما فعل إبن عبدكه ولتكونوا رجال الرجال.
وقبل أن نغادر الموضوع، فأهلنا يقولون، وهذا المثال يدخل أيضا في باب الحسجة: المرأة اوداعة الطيب، أي أن المرأة وديعة الخير من الناس والقادر على صونها وحمايتها.
أخيرا سأذكّركم بما قاله الإمام علي وعلى لسان البحاثة الفرنسي (كاراديفو): علي فارسا غالبا، ولكنه فارس صوفي، أي أنَّ فروسيته نهلت من معين المعارف الإلهية حتى الإرتواء.. فهو لا يرفع سيفه النبيل، ويهوى به الاّ ليقتل شيطانا….. ليعز كلمة الله ويجعل الناس يعيشون تحت ظلالها جنات الإخاء..والمحبة، وسلامة الصدور من اﻷحقاد والبغضاء والمفاسد. فسيروا على خطى الإمام علي سيد المتقين وكونوا فرسانا.