23 ديسمبر، 2024 3:59 ص

صباح ياقو توماس مُلهِم جيلنا

صباح ياقو توماس مُلهِم جيلنا

رحلَ قبل عدة اشهر الثائر صباح توماس مأسوفاً عليه، بعد ان أوفى الكثير تجاه وطنه وشعبه، لن يكن سهلاً ان تجود الأيام برجل مثله في الشجاعة، عرفته سوح النضال لسنين طويلة مقارعاً الظلم والطغيان، من على قمم جبال الوطن الشمّاء، وُهِبَ صباح الرشاقة، الطول، الوسامة، الحيوية، الوعي السياسي، والذهن المتوقد، كان ايضاً محباً لرفاقه، قاسي على أعدائه. يشرفني ان اكون في حضرة هذا الانسان، الذي جبل من طينة القوش المتأصِلة في التأريخ، الموغل في اعماق الحضارات القديمة، وكما عرفته وسمعت به على مدى أكثر من نصف قرنٍ.
إنّ كثيراً مما أتناوله هنا في مقالي، مفصل في كتابي المعد للطبع، والموسوم” الجبال ملاذ الأحرار” ، تعود معرفتي بصباح عندما تركت عائلته كركوك إثر احداث عام 1959 الدامية، استقروا لفترة في محلة اودو، ثم بنوا بيتاً في آخر محلة التحتاني( قرب كنيسة مار قرداغ) كانوا يمتلكون عدداً السيارات عند قدومهم( واحدة كانت تسمى بوزنك) وفي وقتها كانت بمثابة ثروة غير قليلة، صادرتها السلطة الحاكمة فيما بعد، بسبب مواقف تلك العائلة النضالية والوطنية. حدثني والدي عن ذهاب وفد من القوش في خريف 1959 الى قرية( پيده) للتوسط في صلح بين عشيرتي المزوري المتقاتلتين( بيت الشيخ نوري وبيت الحاج ملو) ، كان والد صباح المرحوم ياقو يحمل بندقية برنو ويسير في المقدمة، وهم يرتقون الجبل للوصول الى القرية المذكورة، للاسف لم تكتمل مهمتهم لسقوط رفيق لهم ووفاته، بسبب عجز في القلب والمأسوف على شبابه كان هرمز بچوري. عندما كان الشهيد هرمز ملك چكو يأتي الى القوش، يبعث في طلب ياقو توماس ليأخذ رأيه في امور المنطقة، وذلك لرجاحة عقله وشهامته، ذلك الرجل الهمام وزوجته الطيبة مريم يونس تعينو، ربّيا عائلة وطنية تفتخر بها القوش والمنطقة.

داوم صباح في ثانوية القوش للبنين، وعرف بين زملائه بالدأب والنشاط، وكان متأثراً بزميل آخر غيور ومندفع وهو سعيد يوسف اسطيفانا، كانا لا يهابا شيئاً، وقد قادوا التنظيمات الطلابية والشبابية، وأحيوا العديد من المناسبات الوطنية، بجانب فتية آخرين من أعمارهم، كنت وانا صغيراً أراهم أمامي في أزقة البلدة وفي ساحاتها، خصوصاً امام مركز الناحية والشرطة( قشلة) . ساءت الظروف بسبب إندلاع القتال في شمال العراق، وفي عام 1963 وقع انقلاب 8 شباط الدموي، فما كان من صباح إلا ان يلتحق بالثوار في جبل القوش، لم يطل الزمن كثيراً، حتى ذاع صيته مقاتلاً شديداً، فاشترك في عمليات جريئة، انتشرت أخبارها بسرعة في المنطقة، وكان اسمه يكفي ليدخل الخوف، في اوصال رجالات السلطة الحاكمة، وأذنابها من العملاء المأجورين.

لا زلت أذكر يوم الاحتفال بعيد نوروز 21 اذار 1964، وُضع هدف على بعد مناسب، فتبارى الثوار اطلاق النار بالتناوب لإصابته، من بنادقهم المتنوعة، فكان الفوز من نصيب صباح، فتعالى الهتاف بحياته، على لسان انسان شعبي، وهو بحو گوريال شبو، ورددنا جميعاً ما قاله، مع التصفيق المتواصل من الحاضرين. في فجر احد الأيام ووالدي يهمّ بمغادرة القوش الى دير الربان هرمزد، بصحبة صديقه المرحوم بطرس سليمان گولا وعندما أشرفوا على بيادر محلة قاشا( قرب بيت عيسى وردة) شاهدا عدداً من افراد الشرطة أمامهم( عرفوا فيما بعد بأنهم كانوا تحت أمرة مأمور المركز محمد يونس) ، انبطح الجميع متخذين وضع الإستعداد، كذا فعل الوالد وصديقه، حيث تمترسوا خلف صخرة ينتظرون ما يحصل، وهم على استعداد للدفاع عن أنفسهم، لم يطلق احد من المجموعة النار بل نهضوا تباعاً، ومضوا في طريقهم، وتبين فيما بعد بأنهم كانوا في مهمة إلقاء القبض على صباح توماس، الذي كانت إخبارية قد وصلت إليهم بأنه يبيت في منزله، لم تشأ الشرطة اطلاق النار على والدي وصاحبه، حتى لا تحدث ضجة فيهرب صباح، ومع كل الحيطة التي اتخذوها فشلوا في مهمتهم، ثم خرج صباح من بيته، وهجم بمفرده على” سيطرة” الشرطة في الشارع المؤدي الى الموصل( قرب بناية المسلخ) ، فاجأهم وطلب منهم الإستسلام فاستسلموا، صادر اسلحتهم ومضى ظافراً الى الجبل.
كان صباح مندفعاً بشدة وكذلك الشباب الذين معه من أمثال حبيب تومي وگوريال بلو، كان قائدهم الراحل توما توماس يخفف من اندفاعهم ولا يشجعهم على المغامرة، يقول صباح انهم كانوا يختبئون خلف سياج بيت وزي، وعندما يمر الشرطة بصفاراتهم اثناء الليل، كان صباح مع رفاقه يمدون أيديهم بخفة، ويخطفون سداراتهم العسكرية، كانت الشرطة تهرب لا تلوي على شيء. عند محاولة ثوار جبهة القوش، بقيادة البطلين هرمز جكو وتوما توماس، احتلال مركز شرطة القوش بتاريخ 23- 11- 1963، كان صباح توماس يتخذ موضعه القتالي، على سطح احد البيوت في محلة اودو، وعندما بدأ اطلاق النار الكثيف على المركز من كل جهاته، نزل صباح من السطح وطرق باب بيت منصور قيا حيث يقرب بصلة قرابة الى زوجته حَبي بطرس شوشاني، فطمأنهم قائلاً: نحن هنا لاحتلال المركز، وإلقاء القبض على مدير الناحية، سيء الصيت سيروان الجاف، لكن المهمة لم يكتب لها النجاح، فأستشهد احد المهاجمين وجرح آخر، فيما قتل احد عرفاء الشرطة.

في ربيع من كل عام وبحلول عيد الشعب الكردي” نوروز” كان صباح واصحابه يضرمون النار بإطارات مطاطية مرطبة جيداً بگاز المحروقات، فيتصاعد نارها الى الأجواء، والناس على اسطح منازل القوش تنظر بفرح، ومن ثم تسمع اطلاقات نار من قبل الثوار بعضها بألوان مختلفة( طلقات تنوير) واذا تواجد عسكر في مفرق القوش، فانه يطلق قذائف مدافع او دبابات على تلك الأماكن، وكل سنة يتكرر ذلك المشهد الأخاذ.
عندما حلت هدنة البزاز في 29- حزيران- 1966 كان صباح يأتي الى مقهى 14 تموز لصاحبه بتي دگالي، هناك تعرفت عليه جيداً عن طريق لعبة التنس المتوفرة، فنتوالى انا وأقراني اللعب معه وآخرين منهم بنو خاميس وثائر آخر من اهالي كركوك واسمه( صبحي) في تلك الايام عرفنا ان صباح كان محتجزاً لفترة، في مقر آمر هيز المنطقة حسو ميرخان، ومعه كل من شعيا اسرائيل، اسماعيل كجل، وغيرهم، بسبب ملابسات مقتل أحد الأيزيدية واسمه( داود) في قرية بيبان، لم يطل احتجازهم كثيراً، حتى حضور توما توماس، فأطلق سراحهم وأعيد لهم سلاحهم.

في عام 1967 حصلت سلسلة معارك في مناطق الزيباريين، تركزت خصوصاً مع المرتزقة( الجحوش) ، قرب بلدة باكرمان وقرى الشوش وشرمان، استبسل صباح فيها واحتل العديد من الربايا العسكرية، حدثني سليم زيباري من باكرمان، وكان موظفا في دائرة طرق دهوك نهاية سبعينات القرن الماضي، حدثني عن شجاعة صباح قائلاً( بالكردية): سيدا وَكي صباح نِنا، خِرْ كردستان وكي صباح نابِت، اي لا يوجد مثل صباح، ولا مثيل له في كل كردستان. تشاء الصدف السيئة ان يفقد احدى عينيه في تلك المعركة، كانت خسارة كبيرة لصباح وللثوار، وتركت ابلغ الأثر على مسيرة حياته اللاحقة، ونظراً لخطورة وضعه الصحي وصعوبة علاجه في الجبل، فقد تبنى علاجه احد رؤساء القبائل الكردية المدعو محمد سليم شوشي من تلك المنطقة، فقد منحه هوية احد مقاتليه( ﭼتا) وغير يشماغه من الأحمر الى الاسود- أبيض، وذهب صباح الى الموصل ليتعالج في مستشفياتها الحكومية، لو عرفت السلطة بذلك لأنهت حياته على الفور، ولكن المهمة كانت محكمة وناجحة، ويعود الفضل فيها الى ذلك الرجل الهُمام، وقد كان صباح اثناء فترة تلقيه العلاج، يبيت في بيت ابنة عمه سمرية صادق توماس، زوجة منصور وزي.

بعد تماثله للشفاء عاد الى الجبل، قررت القيادة ارساله للعلاج في الاتحاد السوفيتي، فغادر العراق في شباط 1968، اتذكر كنا في فترة الشباب نسمع بان صباح سيتحدث من اذاعة موسكو، فنسهر تلك الليلة لنسمع صوته وما يقوله، هذا الفارس الذي ترجل مؤقتاً من على ظهر فرسه. في موسكو تعالج وركبت لعينه المفقودة عيناً صناعية، واصل بها دراسته هناك، حتى نال شهادة الدكتوراه، عاد لعدة سنوات الى بغداد، ثم تعرض لمضايقات السلطات، فرجع الى موسكو، وهناك واصل التدريب على فنون القتال فزادت خبراته ومهاراته، ليلتحق مرة اخرى بالجبال طيلة اعوام الثمانينات. وعن الفنون التي كان يجيدها اسوق الحادثة التالية: بتاريخ 26- 10- 1982 وصلت مع عائلتي الى منطقة كاني بلاف، وبحوزتي سيارة تيوتا بيك أب جديدة، عائدة الى مديرية أمن نينوى، فتولى سياقتها ابو ليلى. يقول اخي النصير ماهر، بأن ابو ليلى كان يسوق السيارة في احد الأيام بين الداؤودية وكاني بلاف، وهو فيها ومعهم مختار قرية “دوري” الحالي النصير سعدو، واذا به وبحركة مفاجئة يقلب السيارة على جانبه، فتسير على عجلتيها الجانبيتين، فيما العجلات الاخرى تتعلق في الهوء، ثم عادت بعد قليل الى وضعها الطبيعي.

يروي ايضا النصير خالد القس يوحنان( ابو نادر) وقد كان أحد انصار الفوج الثالث الذي يقوده ابو ليلى، بان احد المختارين كان يمتنع عن توزيع الرفاق على بيوت القرية للعشاء، وكان موقع تلك القرية قرب خط التماس مع قطعات السلطة، وقد تكررت فعلته تلك، فأوصل الرفاق شكواهم الى ابو ليلى، فصعد عنده الغضب وتوجه الى القرية، دعا مختارها وعند وصوله وقبل ان يتفوه بكلمة، لطمه بقوة على خده قائلاً: نحن هنا نضحي بدمائنا من أجل من؟ نحن هنا من أجل عيون الشعب، وقد تركنا الدنيا وملاذها، لماذا تعرقل توزيع رفاقنا في القرية؟ في حين لا تفعل الشيء ذاته مع فصائل اخرى، فأخذ يعتذر ويكرر اعتذاره، فوزعهم خانعاً على بيوت القرية، ثم مضوا في سبيلهم ومهامهم.
بزغ نجمه من جديد قائدا انصارياً، وعرفته جبال ووديان بهدينان، مناضلاً صلباً ومقاتلاً باسلاً، لا يعرف الخوف طريقاً الى قلبه ابداً، فنفذ عمليات نوعية ضد السلطة ومرتزقتها، وكان الأعداء يحسبون له ألف حساب، وكم حاولوا اغتياله او تدبير عمليات خسيسة، منها السموم ومنها اندساس العملاء، كلها فشلت على صخرة صلابته ويقظته، ولكنه ومع مجموعة كبيرة من الانصار، تعرضوا في عام 1987 الى هجوم كيمياوي، من طائرات النظام الدكتاتوري، على مقرهم في الزاب قرب العمادية، واصيب اصابات بالغة، ظل يعاني منها حتى بعد مغادرة الجبال الى روسيا، عن طريق ألاراضي الأيرانية.
اضطر صباح الى تطبيق برنامج غذائي خاص، بسبب تلك الإصابة اللعينة، والتي أثرت عليه كثيراً، فقضى شطراً من حياته في موسكو، ثم السويد ومن ثم العراق بعد سقوط النظام الشمولي الدكتاتوري، كما وقام بزيارات عديدة وسفرات الى اماكن شتى من العالم، بما فيها اوربا واميركا واستراليا، حتى وصل الى الفلبين بدعوة من سفيرها الدكتور وديع بتي حنا في حدود عام 2012 فامضى اوقات راحة ممتعة هناك.

اذا ركزنا على فترة ما بعد السقوط، فقد تحقق لصباح حلمه في العودة الى وطنه وبلدته القوش، وان كان بعد هجرة الكثيرين من اهلها، وتشتت عائلته في المنافي البعيدة. مارس بعض النفوذ فيها ولمصلحة شعبها، في الحفاظ على تلك البيئة الجميلة، وذلك بإدخال الطرق العصرية، منها إبعاد قطعان الأغنام والأبقار عنها، وتثبيت خط احمر لأي غريب في امتلاك ارض او بناء فيها، وبذلك سار على خطة الآباء ليحافظ عليها الأبناء. وكذلك ساهم في حملة التشجير الكثيفة فيها، ومنع قطع الأشجار في جبلها وحتى وادي دير الربان هرمزد، فبات الجبل أخضراً مظللاً بالأشجار، في معظم فصول السنة. كما تسنى له حضور مراسم استقبال جثامين الأنصار الذين قضوا في التصدي للحكم السابق، ومنهم شقيقيه البطلين خيري وطلال، وعمه توما توماس وزوجته ألماس زلفا، وكان له حضوراً في العديد من الاحتفاليات والنشاطات الجماهيرية، كما وساهم بتاريخ 14 تموز 2011 ، في قطع شريط افتتاح منتزه توما توماس الذي ضم تمثاله، والمنتزه من أجمل منتزهات البلدة.

صباح كان في السويد في الصيف الماضي، وقد تعرض الى نكسات صحية متتالية، هناك بين اهلة وبجانب والدته احتفل بعيد ميلاده ال 75 ، وبعدها بمدة قصيرة تكلم مع احد اصدقائه وهو ناهي يوسف صارو، قائلاً بأنه ذاهب الى مكان ما، وكان المكان مسقط رأسه، وفي احد صباحات ايلول الموافق 13 منه، قضى صباح في غرفته على اثر سكتة قلبية، فانتهت حياته جسداً، واقامت منظمة القوش مراسم وداع تليق به، وشاركت جماهير غفيرة من البلدة والقرى المحيطة، في نقل جثمانه من دهوك الى كنيسة ماركوركيس، ثم الى مقبرة الآباء والأجداد، وأركن جسده قرب ضريح عمه الفقيد توما توماس يوم 16 ايلول 2017.
الطريق الذي سار عليه صباح توماس، مزدان بالورود وبنياشين الأبطال، كان رجلاً قلّما يضاهيه رجل، في البسالة والاقدام وتحمل مشاق النضال الطويل، وقد اصيب في احدى عينيه، وتعرض للسموم الكيمياوية وفقد اثنين من اخوته، ولم ينثن عن ذلك الطريق المفضي لا محالة، الى الحرية والعدالة الاجتماعية.

لن اقول وداعاً يا ابا ليلى، لأنك راقد في تراب بلدة الابطال، وستكون عيونك ساهرة عليها ابداً. لك ابو ليلى السلام يوم ولدت، ويوم كنت قائدا أنصارياً، ويوم ووري الثرى جثمانك في بلدة البطولة والثبات القوش.
ابو ليلى: طريقك يتسع لأشد المناضلين صلابة في سبيل” وطن حر وشعب سعيد” .
ابو ليلى : الجبال أقفرت بدونك، والأماكن التي وطأتها أقدامك، حزينة على فراقك.