23 ديسمبر، 2024 12:16 م

صاحبة العزاء والحدث..جاسيندا أرديرن

صاحبة العزاء والحدث..جاسيندا أرديرن

ربما لم يكن احد خارج حدود نيوزيلندا، يعرف اسم رئيسة وزراء ذلك البلد، قبل الجمعة الدامية، التي ازهق فيها المتطرف اليميني الاسترالي ارواح مصلين مسلمين كانوا يؤدون صلاة الجمعة داخل مسجدين في كريستشيرش.
منذ تلك اللحظات السوداء في ظهيرة الجمعة ما قبل الماضية، ورئيسة وزراء تلك الجزر النائية، مشمّرة عن سواعد العمل الجاد في ما تقتضيه المناسبة الاليمة، من استيعاب للصدمة وتضميد لجراحها، وطمأنة للشريحة المستهدفة ومواساتها، وسعياً لاستصدار قرارات جديدة في محاولة لمنع تكرار ما حدث، وحتى مراسم دفن الضحايا حرصت ان تتواجد فيها في سابقة تعد تاريخية. كل هذا وغيره تقوم به بصفتها سيدة البيت النيوزيلندي المفجوع بالعدوان على ابنائه، من قبل شخص تافه، طائش، راسه معبئة باوهام التفوق الوهمي للبيض على سائر ابناء آدم، واوهام اخرى، رسخها في تفكيره، خطاب اعلامي ينضح كراهية، شاع في السنوات الاخيرة.
جاسيندا ارديرن، اسم عبر الحدود، فارضاً احترامه على كل من تابع اصداء ما حدث. تتحرك، فتحرك معها المشاعر، وتطل من الشاشة، فتمنحها وهجاً مختلف. تنظر اليها وهي متلفعة بالحجاب حاضرة بين ذوي الضحايا تحتضن هذه مواسية، وتربت على اكتاف ذاك معبرة عن حزنها وعزائها، وكانها تشعر بالخجل امام قوم جاؤوهم فارين من جحيم اوطانهم، فساقت لهم الاقدار جحيماً لم يكن بحسبانهم. وبعد قليل تراها في مؤتمر صحفي تجيب على الاسئلة الموجهة اليها بنفس النبرة المشوبة بالخجل والحزن والغضب. وفي ملاحظة ذكية منها، تتعمد عدم ذكر القاتل في جميع لقاءاتها الصحفية واحاديثها، وتشير على الاخرين بان لا يذكروا اسمه بل الذي يجب ان يذكر هي اسماء الضحايا. ولم تنقصها الشجاعة، بل تفردت بها، من بين جميع الاصوات الغربية، حين اعلنت فور وقوع الحادث ومعرفة منفذه وضحاياه، بأن الهجوم ارهابي ولا توصيف له غير ذلك. وهذا ما لم يعرف من قبل من وسائل الاعلام الغربية والشخصيات السياسية في مثل هكذا حوادث، حيث يتعمدون تبسيط اي عمل اجرامي يقوم به ابيض ضد المهاجرين عموماً او المسلمين خصوصاً، واللجوء الى توصيفه باوصاف اخرى تجنبه سمة الارهاب.
امام هكذا نموذج انساني باذخ الانسانية تشعر بانك تريد ان تحتضن الشاشة التي يطل منها. وامام هكذا نوع من الشعور بالمسؤولية لمسؤول في اعلى هرم للسلطة، تجد نفسك تلقي بحسرة بحجم الفجيعة باوطاننا التي يفتقر “المسؤولون” فيها لادنا درجات المسؤولية تجاه من يشاركونهم الاوطان والاديان والمصائر.
جاسيندا امراة لا تدين بدين ولا تؤمن بإله، لكن ضميرها حي، وانسانيتها نقية، وتدرك معنى ان يكون المرء مسؤولاً. متنبهة لوقع ما تقوم به في نفوس رعاياها ومن يتابعها من بعيد، منطلقة من نقاء انسانيتها، وادراكها العالي لمعنى وجودها بهذا الموقع والمواقف الصادرة عنها. هكذا يجب ان يكون من يتصدى للزعامات، وهذه الروح التي يجب ان يلمسها المواطن مِن مَن يحكمون الاوطان.
الف تحية لك سيدة جاسيندا، فما دام في الواجهة اشخاص بنقائك وانسانيتك، يستطيع المرء الجزم بان الكراهية التي اتسعت رقعتها على خريطة العالم في الاونة الاخيرة، ستنتكس وتتراجع امام نبل المواقف الانسانية، ورسوخ الايمان بان الانسان اخو الانسان برغم اختلاف الاديان والاعراق والالوان. عالمنا اليوم بامس الحاجة لامثال وقفتك وموقفك، وتضامن شعبك مع اهالي ضحايا الارهاب الذي كما قيل لا دين له، وهو كذلك.