اللغة العربية الرائعة البديعة , تعاني ما تعانيه على يد أبنائها , المتاثرين بآليات ومهارات التغرير الإنقراضي والتكنولوجي , الساعي لتفريغهم من محتوياتهم الإنسانية والحضارية , وتحويلهم إلى موجودات بلا هوية , وبملامح إتلافية خلاقة المواصفات.
وهكذا تجدنا أمام محنة إنقلاب تاج الضاد إلى الضد!!
فالعرب وكأنهم على خصام مع لغتهم , وإهمال لها وإزورارٍ عنها , ولا تخلو الخطب والكتابات من العثرات والأخطاء ونزرة المفردات , حتى لتحسب المتكلمين بلا قدرة على قول ما يريدونه , مما يتسبب في إنهيارات تواصلية ذات تداعيات وخيمة.
ويتعرض العرب لهجمة شرسة على عروبتهم , تتمثل في تجهيلهم بلغتهم , ودفعهم إلى إستخدام لغات أخرى , تساهم في إضعاف قدراتهم التعبيرية باللغة العربية.
وأصبحنا نتواصل مع بعض الزملاء والأصدقاء , ونستغرب من قولهم بأنهم يفضلون التحاور بغير العربية , لأن قدرتهم على التعبير بها ضعيفة , وبعضهم يحسب ذلك نوع من التحضر والمعاصرة , وعندما تكاتبهم بالعربية يجيبونك بلغة أخرى , وإن كررت ذلك توقفوا , لأنهم يحسبونه إعتداءً عليهم , فالعربية ما عادت لغتهم الأم!
وفي بعض دولنا لا تحتاج للعربية في التعامل مع الناس , وإنما اللغات الأجنبية هي السائدة , وأنت تتجول في شوارعها وأسواقها , تتوارد إلى مسامعك محادثات بلغات أخرى , ذلك أن هذه الدول لا تفرض على العاملين فيها تعلم اللغة العربية , بل تتباهى بأنها تتعلم لغتهم.
فالعاملة الأجنبية في البيت لا تتعلم لغة أهل البيت , وإنما يتفاخرون بأنهم قد تعلموا لغتها , وصاروا يخاطبونها بها , بل أنها تعلم الأطفال لغتها , فيفقدون إرتباطهم الأساسي باللغة العربية.
ومن المحزن أن تكون في دولة عربية , وتجد أنك تستخدم لغة أجنبية للتخاطب والتفاهم مع الناس , من سائق التاكسي إلى العاملين في الفنادق وغيرها من مرافق الحياة.
وفي معظم الدول العربية , لا تحظى لغة الضاد بالإهتمام الذي تحظى به لغات الدنيا الأخرى في دولها , كالفرنسية والإيطالية والألمانية والصينية واليابانية والكورية والتركية والفارسية , وهذا خلل حضاري مروّع وإنهيار فكري وكياني , يستهدف الهوية , ويسعى لقتل العروبة والقضاء على أسس ومعاني الوجود العربي.
ولو حصلت مقارنة بالمخزون اللغوي (مفردات اللغة) ما بيننا وبين أبناء اللغات الأخرى , لتبين أننا نتفوق عليهم بالإفتقار للمفردات , فالمجتمعات تسعى لرفد أدمغة أبنائها , ومنذ ما قبل الروضة والإبتدائية , بأقصى عدد من المفردات اللغوية , لتعينهم على إمتلاك أدوات التعبير عن أفكارهم , والتواصل مع عصرهم , بأعلى درجات الإبداع والتفاعل الإبتكاري الأصيل.
ذلك أن إثراء العقول بالمفردات يساهم في زيادة قدرات التفكير السليم , وينمي آليات التخاطب والتحاور بالعقول لا بالأيادي والعواطف والإنفعالات.
ومن الواضح أن الطفل في المجتمعات المتقدمة يمتلك القدرة على التعبير عن نفسه بلغته , أفضل من الطفل في مجتمعاتنا , لأننا نهمل تعليم المفردات , وهم يستثمرون فيها , ومنذ بداية العام الثالث للطفل.
فصاحبة الجلالة هي لغة الفرقان ويتكلم بها الملايين ويرتلون القرآن , و تعاني في مَواطنها , وبإرادة أبنائها الذين وكأنهم يريدون التخلي عنها.
وبمناسبة اليوم العالمي لصاحبة الجلالة الموقرة , فأنها تناشدكم وتنادي بالتواصل معها وتحقيق غاياتها.
فالعالم يريد أن يتعلمها , وهي من الحصص الدراسية الأساسية في العديد من جامعات الدنيا , وكل مسلم يريد من العرب الغيارى على لغتهم أن يساهموا في زيادة معرفته بها.
فالعربية لغتنا وهويتنا وتنادينا , وعلينا أن نلبّي نداءها ونكون بها ومعها.
فاللغات لسان حال الأمم , فإن ضعفت الأمم تضعف لغاتها , وإن إرتقت ترتقي لغاتها!
وتتجسد رسالتنا الحضارية في نشر العربية وتعليمها , فلنخرج إلى فضاءات العطاء والمساهمة الإنسانية المعاصرة.
إن العربية تخاطبنا , أن هيا أطلقوا مفرداتي , وارفعوا رايتي ما دمتم في أرجاء الدنيا تنتشرون.
وهذه الراية يحملها المثقفون المهاجرون , فهم مشاعل مضيئة تساهم بتعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات والمتديات والجمعيات .
وعليهم تقع مسؤولية تاريخية كبيرة للتعبير عن حضارتهم وثقافتهم وإنسانيتهم , بتعليم لغة الضاد والمشاركة الفعالة في بناء الثقافة العربية أينما حلوا.
عاشت لغتنا التي تكمن الدرر في أعماقها , وسيبقى الضاد تاجها الوهاج الساطع المنير في آفاق الإبداع الحضاري المطلق.
فضعوا تاج الضاد على رؤوسكم لكي تزهو بكم الأيام!!