يعيش الصابئة المندائيون في مدن الماء المغرمة بجهات الجنوب التي لبست اردية الانبياء الأوائل ( آدم ونوح وابراهيم ولوط وأيوب والعزير ــ عليهم السلام ــ ) .
ليسوا شعبا ولا أمة ، بل هم طائفة ربما يرتبط تأريخ وجودها مع نوح وإبراهيم ويقولون أيضا أنهم تواجدوا منذ آدم في المكان عدا أزمنة لرحلات مختلفة وربما قد يكونوا صعدوا وعاشوا في حران أثناء هجرة النبي ابراهيم ع من أور الكلدان.
وهكذا يسكننا اليقين في اتكائنا على النصوص القرآنية التي تتحدث على أن الصابئة من اصحاب الجزية والبحوث الدينية المكتوبة عنهم من غير أهلهم وأهمها رسالة آية الله السيد الخامنئي والذي أكد أنهم موحدون ، أن الصابئة اقدم رؤيا سماوية ودين يعترف بالوحدانية ويجعل له نبيا كمرجعية رسالية وهو النبي يحيى ( ع ).
عاشوا في المكان ، ألفوه ومارسوا معه غراما روحيا ، أبتدأوه بطقوس التعميد على ضفاف شواطئه وانتهوا بصمود أسطوري ضد كل الويلات التي مرت بهم والمذابح.
ينتمي الصابئة الى الاهوار ، والأهوار تنتمي اليهم ، ثنائية من الأزل الغريب والغامض في بعض ثنايا البحث عنه ، حيث ابقوا روح الديانة داخل الكيان المندائي حتى لا تلوثها متغيرات الزمن ، فهي ديانة ، لا تجذب ولا تطرد بل انها منغلقة داخل نسيج العرق والذاكرة والنسل الصافي ، ليعيشوا كل هذا الأزل بهدوء وتأمل وخلق حضاري غريب أول مهامه وصفاته أنه لا يعرف العنف أبدا ، وربما تمثل المندائية في طبيعتها الاخلاقية والحضارية الظاهرة الوحدانية الاولى التي لم تقترب الى السيف والبندقية لإيصال بعض من رؤى التبشير والجنوح الى فتوحات.
لهذا كل الذين حكموا المكان من فرس ورومان وآل عثمان وإنكليز كانوا يتفاجأون بمثل هذا التجمع السكاني والديني ويسألون عن اسراره وحين يعرفوه يمنحونهم الأمان والمساحة الجغرافية للعيش بطابو أو بدونه ، وكانت علاقتهم مع تلك الانظمة والامبراطوريات تكون عبر ممثل واحد هو الشيخ الروحي للطائفة الذي يحمل جسده ويذهب به الى الحاكم او الوالي ليزوره للتهنئة او ليحمل مطلب صغير لا يتعدى فتح مدرسة أو أجازه بناء معبد او اعفاء ابناءهم من الخدمة العسكرية لان حياتهم قائمة فقط على ممارسة الطقس الديني وربما رفعوا هذا الشرط بعد الحكم الوطني ــ الملكي ، والتحق بالعسكرية بعض ابناءهم ،ولأول مرة نال الصابئة ما نال العراق من ظيم الحروب واحزانها فدفعوا للتراب الوطني دما شهيدا بعدما كانت دماء الصابئة تسيل جراء مذابح جائرة من امم ومذاهب وولاة لا يعرفوا ماهية هذه الملة واحلامها وتوحيدها.
للماء مع المندائية جدل الابد ، وحيث يوجد الماء وغابات النخيل والسدر والآس والقصب يستوطن هؤلاء الناس في تكويرة سكانية ليست بالكثيرة والشاسعة ، وليست منغلقة مجتمعيا ،فلقد اقام المندائيون مع جيرانهم المسلمين وبقية الملل علاقات ورابط اجتماعية في كل شيء عدا المصاهرة ، وكان هذا التوافق المجتمعي صورة جميلة من صور التآلف والانسجام والمودة التي كانت وما زالت تلم النسيج العراقي .
صابئة الاهوار واهوار الصابئة ، تبادل روحي في الادوار في جسدِ هذا المكون الذي احتفظ بتعاليمه واساطيره وطلاسمه على الواح الرصاص بعد ان احرقت الاحقاد القديمة نصوصهم الاولى.
ابقوا ارثهم وصلاتهم وطباعهم الهادئة والمسالمة لصيقة للروح المندائية وطبائعها وعاشوا في المكان يرثوه ويرثهم منذ أن لامس شراع سفينة نوح رياح الجنوب والى اليوم.!