الحلقة العاشرة
“ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به”
الإمام علي
يخطر ببالي بين الفينة والأخرى سؤال محوري يتعلّق بالرفيق عزيز محمد مفاده: إذا كان تقييمه إيجابياً للرفيق أبو خولة ” باقر ابراهيم الموسوي” لدرجة أنه لا يتصوّر الحزب دونه، ويشيد بحسين سلطان، ويثني على كفاءة عامر عبدالله ودوره الفكري، ويقدّر منجز نوري عبد الرزاق على المستويين العربي والدولي، ولم يقطع الصلة مع مهدي الحافظ، على الرغم من التباعد والجفوة التي حصلت؛ وقد حاولت ترتيب لقاءين لهما 1981 بعد شبه قطيعة كما أشرت في مطالعتي الموسومة ” مهدي الحافظ: يا له من زمن؟ والمنشورة في صحيفة الزمان على أربع حلقات بتاريخ 8 و9 و10 13 /10/2018 “؟ فكيف يستطيع أن يقدم على إجراءات فصل تعسفية بحق هؤلاء الرفاق ورفاق آخرين وعشرات من الكوادر المتقدّمة والاختصاصية، جرت تحت إدارته، سواء بقرار مباشر منه أم بموافقته وعدم اعتراضه على القرارات التي اندفعت إليها المجموعة المتشدّدة والمتطرّفة، على الرغم من أنه يحاول إبقاء باب العلاقة الشخصية مفتوحاً وحبل الود قائماً.
والسؤال المتفرّع عن السؤال الأول: أهي مبدأية عزيز محمد كما يذهب البعض أم ازدواجية حزبية أم أن سياقات الحال، ولاسيّما الشخصية تقتضي ذلك، خارج دائرتي المبدأية والازدواجية؟ وكم تداخلت تلك الأمور في ظروف العمل السري وتحت مبرراته ليتم التغطية على مآسي وآلام وحتى كوارث، سواء على المستوى الشخصي أم الجماعي، بقرارات خاطئة أو قاصرة أو حتى جاهلة، بل لا إنسانية؟
وكم تساءلت أين اللغز المحيّر في سلوك عزيز محمد ؟ هل هو الذي يتحدث بتلك الإيجابية عن الرفاق الذين يتم التنكيل بهم، نفسه الذي يتخذ الإجراءات العقابية بحقهم، أم ثمة قوى أخرى خفيّة هي التي خططت لهذا النهج الإقصائي التفريطي، لأغراضها الخاصة وحساباتها الأنانية؟ وأعود إلى سياسة الغرام والانتقام ، فقد غدت نهجاً بفعل عنصر التكرار وتواتر الاستخدام وواقع الحال والتراكم، حتى أن الدائرة دارت على كثيرين فينتقل المقموع إلى قامع وهكذا أي بالرضوخ أو الإقصاء، تحت عنوان ” المركزية الديمقراطية” التي قدمت صوراً مشوّهة ولا إنسانية في الكثير من الأحيان.
ولم أجد تعابير بليغة ومؤثّرة مثل تلك التي وضعها عامر عبدالله في كتابه “مقوضات النظام الاشتراكي العالمي”، دار رمضان، لندن، 1997 بشأن الحياة الحزبية التي قادت أحياناً إلى سحق الآدمية ، لاسيّما عند الخلاف بالرأي واستخدام سيف العقوبات الحزبية، سواء تأثيرها المعنوي على المعاقب أو رغبة القيادات في إجباره على الرضوخ والاعتراف على نفسه.
يقول عامر عبدالله ” ليس هناك أسلحة فتاكة أو قوة غاشمة ، سواء كانت سيفاً أم مقصلة أو رصاصة قادرة على تهشيم البنية الأخلاقية والإنسانية للإنسان أو إضعاف مرؤته وصدقه وشجاعته أو تشويه خصاله وسجاياه، أو تحطيم عزيمته، ما يوازي فعل وأحكام وأجواء الحزب أو نزعات ونزوات بعض قادة الحزب، وهذا ما وقع وتكرر في معظم الأحزاب في العالم .
وفي الوقت الذي كان البعض يبدي آيات التبجيل لهؤلاء الرفاق المخلوعين ويحاول التقرّب منهم و”التمسكن” أمامهم ، فإنه كان سوطاً شديداً عليهم بعد افتراق المسار السياسي، وتحوّلت الفضائل إلى رذائل والإيجابيات إلى سلبيات لمجرد اختلافات في الرأي؛ وباستعادة ظروف تلك الفترة يمكن القول أنه لم يكن لعدد من المخلوعين صوت معلن، سوى الحديث همساً أو عبر رسائل إلى السوفييت أو بعض الأحزاب الشقيقة، وذلك عشية المؤتمر الرابع وبُعيده، وهي أدنى درجات الاعتراض وهدفها كان التنبيه من محاولات الاستيلاء على الحزب والتلاعب بمقدراته وتعريض هويّته الوطنية للتشويه، ناهيك عن التصرّف بأمواله وممتلكاته، باستغلال ظروف المنافي الصعبة، فضلاً عن مستقبله وأفق عمله، وهو ما جاءت عليه مذكرة عامر عبدالله ونوري عبد الرزاق، باسم فريق من إدارة الحزب وكوارده تم توجيهها إلى الرفيق عزيز محمد.
ومع التحضير للمؤتمر الرابع للحزب (1985) تصاعدت نبرة العداوة والبغضاء لدرجة لا حدود لها في إطار ماكينة إعلامية تشويهية على نحو صريح ومعلن، وسرّبت إلى الصحافة الكويتية في حينها، فضلاً عن التعميمات الداخلية بالمقاطعة الاجتماعية الذميمة، علماً بأن المذكرة المشار إليها كانت محاولة متأخرة أو لنقل أخيرة، لتسوية مقبولة من الفرقاء، فجاءت عبارة عن مناشدة للرفيق عزيز محمد لإيجاد حل لأزمة الحزب ولمّ شمله، ولكنها حظيت بردود فعل مختلفة بين الإيجاب والسلب، فكريم أحمد الذي التقاه د. محمد جواد فارس وكاتب السطور، باسم المجموعة المعترضة كان إيجابياً جداً، لكن مجموعة أخرى وجدتها فرصة لقطع آخر ما تبقى من إمكانية رأب الصدع ، فاجتمع خمسة ليطردوا خمسة كما عبّر باقر ابراهيم، إضافة إلى الإقالة الصامتة للبعض ودون إعلان.
ويسرد باقر ابراهيم في مذكراته ، دار الطليعة، بيروت، 2002، كيفية زرع الألغام لتفجير الوضع في قيادة الحزب الذي تحقق لاحقاً بخطوات متسارعة فيقول:” وقد أدركت بأن المشكلة لم تكن مشكلة فرد غريب مغامر يطمح للاستحواذ على زمام الأمور في الحزب، بل أن الحالة في قيادة الحزب كانت مريضة وتتدهور بسرعة”.
أما عامر عبدالله فيحدد ثلاث مراحل لاختطاف الحزب بعد الحملة الوحشية التي شنها عليه النظام الدكتاتوري، وهي الأولى – عندما أخذ التحكّم به تحت عنوان ” الكفاح المسلّح” لاسيّما بابتزاز الرفاق، خصوصاً عبر المزاودات اليسارية ورفع الشعارات الطنانة؛
والثانية- هي عجز السكرتير عن القيام بمهماته وتفكك القيادة لوجود أكثر من مركز لها ومن أخطاء عزيز محمد كما يقول عامر عبدالله أنه منح صلاحيات تكاد تكون مطلقة لشخص أخذ يتحكم بأمور الحزب وماليته وعلاقاته، وذلك تحت مبرر السرّية وتمشية الأمور الإدارية؛
أما المرحلة الثالثة فهي دقيقة وحساسة جداً وتتعلق بوطنية الحزب، لاسيّما الموقف من الحرب العراقية- الإيرانية، الذي فيه الكثير من الممالئة لإيران، خصوصاً بعد احتلالها الفاو، حيث كان هناك نوع من الارتباك بين فريقي دمشق وكردستان، على الرغم أن كليهما بحاجة إلى نقد.
وكان الرفيق عزيز محمد يحاول أن يلطّف الأجواء بلغته الدبلوماسية الناعمة لدرجة أن باقر ابراهيم بعد كل لقاء مع عزيز محمد يعود متفائلاً، وفي إحدى المرّات رأيته مستبشراً وقال لي أن الأمور يمكن أن تتحسّن والأمر يحتاج إلى صبر ووقت، لكن الأمور على العكس ازدادت توتراً وارتفعت وتيرة التعصّب والتطرّف لدى الطرف الآخر، وقد كانت لقاءات عزيز محمد مثل “إبرة مورفين” التي هي أقرب إلى التخدير أو حبّات مسكّنة لفترة مؤقتة ، ولكنها ليست علاجاً أو مقترحاً لعلاج أو حتى التفكير به، ويغيب ليلتقي هذا الرفيق أو ذاك بعد عدّة أشهر أو أسابيع ليسمعه كلاماً طيّباً.
وبالمناسبة فإن الغالبية الساحقة من الطاقم الإداري للحزب، كانوا دمثي الأخلاق ولسانهم دافئاً ويتعاملون على الأغلب باعتبارات رفاقية على الرغم من أخطائهم وسلبياتهم ، فإضافة إلى عزيز محمد ، لم أسمع يوماً من باقر ابراهيم أي إساءة شخصية لرفيق، وكذلك من كريم أحمد أو عبد الرزاق الصافي أو عامر عبدالله أو مهدي عبد الكريم أو حسين سلطان أو آرا خاجادور أو عمر علي الشيخ أو الدكتورة نزيهة الدليمي أو بشرى برتو أو يوسف سطيفان (أبو عامل) أو ماجد عبد الرضا أو ثابت حبيب العاني أو عبد الوهاب طاهر أو محمد حسن مبارك أو عدنان عباس أو رحيم عجينة أو غيرهم ، ناهيك عن عشرات من الكوادر القيادية التي تعرّفت عليها خلال عملي أو ربطتني بها صداقات أعتزّ بها.
تألّمت جداً لدرجة الحزن حين أخذ كريم أحمد يتنقل بين الفصائل ويلتقي بمجموعات من الرفاق، ليقدّم نقداً ذاتياً علنياً يقترب من الإذلال ، بسبب ما وقع فيه من تقدير موقف خاطئ إثر أسره في بشتاشان بعد هجوم قوات الاتحاد الوطني الكردستاني الغادر لمقرّات الحزب الشيوعي في 1 أيار (مايو) 1983، وكنت قد قلت في حينها تلك طريقة مذلّة ولا تليق برفيق مثله، حتى وإن أخطأ في الحساب، حيث كان أسيراً ولا يحق له التفاوض إن لم يكن حراً ومكلّفاً بذلك وأي اتفاق سيكون مشوباً بعيوب الرضا، بين الآسر والمأسور، ولعلّ تلك العقوبات واحدة من أمراض الحركة الشيوعية والعقلية الستالينية التي ظلّت مهيمنة، ومن يقرأ رسالة زكي خيري (1962) بخصوص النقد الذاتي يشعر بغصّة في ضميره، سواء كتبها بإرادته أم أنه كتبها برغبة من إدارة الحزب، فكلاهما هدر سافر لحقه في التعبير، ناهيك عن امتهان لكرامته الإنسانية، وكنت قد كتبت ذلك في كتابي ” تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف”، الدار العربية للعلوم ، بيروت، 2014.
وعلمت من كريم أحمد لاحقاً في لقائه به مع ملّا علي، إنه لم يكن مقتنعاً بالإجراء الذي أقدم عليه، ولكنه نفّذ قرار المكتب السياسي بهدف امتصاص نقمة الرفاق على ما حصل في بشتاشان وتنفيذاً لنظام الطاعة الحزبية الذي يقترب من “العبودية” أحياناً، وهو ما يذكرني بما تعرّض له الرفيق بوخارين الذي حوكم بتهمة عمالته وجاسوسيته، وهو كما كان يسمّيه لينين ” محبوب الحزب” وقد اعترف تحت التعذيب بذلك، لأنه هُدّد بإعدام ابنه الذي اعتقل هو الآخر وحاول بوخارين مساومة الجلاد بإعدامه والحكم ببراءة ابنه، وللمزيد من تقديم الولاء والطاعة ظل يهتف بحياة ستالين حتى لحظة إعدامه، لكنه أعدم كما أعدم ابنه أيضاً، وبعد عقود من الزمان أعيد الاعتبار له ، وفنّدت مثل تلك الافتراءات المزعومة التي روّجت لها الدعايات الحزبوية المضلّلة عشية المحاكمات الشهيرة في العام 1936 وما بعدها.
وبغض النظر عن هذا الموقف فكريم أحمد أحد أبرز القادة التاريخيين وهو إنسان طيب القلب ومخلص وصادق السريرة ، يكفي أنه ساهم في تقديم سلام عادل إلى دست القيادة مكتشفاً مواهبه وإمكاناته ، وهو الذي تنازل بعد ذلك إلى حميد عثمان في قيادة الحزب لأنه كان مسؤولاً قبله، ولعمري إن مثل هذا السلوك الطهري هو تعبير عن نكران الذات ونزاهة أخلاقية وصدقية كبيرة بغض النظر عن صواب أو خطأ التقدير في الوقت الذي يتصارع الآخرون على المواقع. أقول ذلك وأنا أشعر بعطف خاص على كريم أحمد وكلّ من تعرّض للتنكيل لحساسية خاصة إزاء الكبرياء الشخصي والكرامة الشيوعية ، وإذا امتهنت كرامة الشيوعي في حزبه فماذا سنُبقي للعدو؟ وهل ثمة خدمة أكثر من ذلك له؟
كنت قد قلت لباقر ابراهيم وعامر عبدالله إلى متى يمكن الرهان على الرفيق أبو سعود، فالأمر يكاد يكون قد خرج من بين يديه والتعويل عليه ليس سوى مضيعة للوقت، فإما اتخاذ موقف أو السكوت ولكل منهما تبعاته، وكنت في ذلك أحاول وضع ثلاث سيناريوهات لسلوك عزيز محمد :
الأول- أن يكون الرجل غير قادر على المواجهة، فهو يتحدّث أمام باقر ابراهيم وعامر عبدالله والمجموعة المحتجّة بلغة، ومع الصقور بلغة أخرى، وذلك يعود ربما لشخصيته ووضعه الاجتماعي.
الثاني- أن يكون مقتنعاً بهذا المآل ويتم ذلك في إطار تقسيم العمل حيث يتولى هو الكلام المعسول بلسانه المعطّر، ويكون من حصة الآخرين الزجر والردع والقسوة، بل إن بعضهم اعتبر ذلك دليلاً للثورية.
والثالث- أن يكون مغلوباً على أمره وهو احتمال وارد بسبب اختلال موازين القوى، فلم يعد كلامه مسموعاً، خصوصاً وأنه تعرّض لضغوط وابتزازات شخصية، فاضطر إلى المجاراة، وقد جرت محاولة إقصائه حسبما يذكر آرا خاجادور ولأسباب غير سياسية، لكنه كما يقول هو من أحبطها، علماً بأنه كان ركناً من أركان التحضير لمكيدة المؤتمر الرابع، وأصبح بعده عضواً في المكتب السياسي، ولكنه ندم على ذلك وعاد ودخل في صراع محموم مع الكتلة التي تشكّلت منها إدارة الحزب وتعرّض هو الآخر إلى اتهامات رخيصة أيضاً، علماً بأن خاجادور كان هو الآخر يراهن على عزيز محمد كتكتيك ضد الكتلة المتشدّدة التي وقفت خلفه، وقد برّر ذلك لاحقاً إن بدعم عزيز محمد وتقويته يمكن دحر الكتلة التي معه، لكن ذلك لم يكن سوى وهماً وهو أحد الواقعين فيه ، ومن يقرأ كتاب د. رحيم عجينة ” الاختيار المتجدد”، دار الكنوز الأدبية ، بيروت، 1998، الذي أصبح بعد المؤتمر الرابع عضواً في المكتب السياسي وكان مندفعاً جداً بالخط السياسي السائد، يلمس المرارة والألم والشعور بالخيبة والخذلان لوصول العلاقات الرفاقية إلى هذا المستوى المتدنّي.
يقول عجينة : وتحوّلت بعض اجتماعات المكتب السياسي إلى كابوس وندوة للشتائم والزعيق والابتزاز والتهجم على بعض أعضاء المكتب السياسي وعلى الهيأة ذاتها، الأمر الذي يعالجه السكرتير (عزيز محمد) بتعليق الاجتماع وإنهائه لكي يتجنب الرد والرد المقابل، وقد أدت هذه المعطيات إلى توقف كريم أحمد عن حضور اجتماعات م.س، واندفع بعض أعضاء الهيئة للإعلان عن رغبتهم بالتخلي عن مواقعهم وإناطة المسؤولية بآخرين…”
وكنت قد كتبت في كتابي ” عامر عبدالله ومرارة الأمل” نقداً ذاتياً عن الفعل ورد الفعل إزاء الكتل المتصارعة، وذلك بوضع مسافة من جميع الفرقاء ومن خلال مراجعة نقدية للماضي بكل ما له وما عليه: ولا بدّ هنا من تسجيل نقد ذاتي آخر يخصّ المعارضة الحزبية، التي شملت “الغث والسمين” وبعضها لا يختلف من حيث الصفات السلبية ونقاط الضعف والخواء عن الجهات التي تنتقدها في إدارة الحزب، وبقدر ما حاولت ” إدارة الحزب” تشويه صورة المعارضة الحزبية، فإن هذه الأخيرة استخدمت في الكثير من الأحيان الأساليب ذاتها التي لجأت إليها إدارة الحزب، سواءً من جانب مجموعة المنبر، لا سيّما بعض ما نشرته (وإن كان محطّ خلاف بين أعضائها) أو مجموعة عامر عبد الله – باقر ابراهيم والذين يدورون في فلكها، أو ما كتبه بهاء الدين نوري، بما فيها مذكراته الشخصية، التي خرج فيها في العديد من الحالات عن النقد السياسي وروح الرفقة والنضال المشترك، ليتناول بعض الجوانب الشخصية، إضافة إلى كتابات حكمت كوتاني ومذكرات شوكت خزندار التي احتوت على اتهامات وشكوك خطيرة ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على الصعيد الأخلاقي والشخصي، وهي أمور لا يمكن الفصل فيها أو إثباتها، ناهيكم ما تثيره من حساسيات تُبعد الصراع السياسي عن محتواه الأساسي وكما يقول المثل: ” ليس كلُ ما يُعرف يُقال”.
ولا شكّ في أن الأجهزة المعادية بجميع أشكالها كانت تستخدم الإتهامات والإساءات من جانب إدارة الحزب ضد خصومها الحزبيين، أو من جانب المعارضة الحزبية، ضد إدارة الحزب، وسيلة لنشر المزيد من الفوضى والتفكّك والتباعد الشخصي والسلوكي، وكانت غالباً ما تدسّ وتزيد وتبالغ في نقل المعلومات من هذا الطرف إلى ذاك، بغية إبقاء النار حامية واللهيب مشتعلاً، والنتيجة هي خسارة للجميع، لا سيّما بالخروج على معايير الصراع السياسي والحزبي الأخلاقية والمبدئية، الذي يستوجب أن يكون الصراع فيها رزيناً والخلاف موقّراً ولغة الخطاب ومفرداته محترمة وأمينة، وللأسف فإن هذه الصراعات في الأحزاب الشمولية الحاكمة أو السرّية غالباً ما تلتهم أفضل الصفات الإيجابية لدى المناضلين، بل وتستهلكهم، وتسهم في تكوين البطانات والولاءات وتبعد الحزب أو الحركة السياسية عن أهدافها.
يتبع.