الفساد ليس كيانا طارئا في جسد الدولة، كما يظن البعض، انه بنيان مرصوص من قاعدة الهرم الوظيفي لقمته. بنيان نشأ منذ عقود، وتطور مع كل هزّة يتعرض لها المجتمع ومؤسساته الوطنية التي تدير شؤون افراده. ببساطة الفساد لم يعد، مثلما كنّا نعرفه، وإنما بات اليوم محركا أساسيا لكل الفعاليات والانشطة ليست الحكومية فحسب بل والحياتية برمتها.
كم منا اضطر الى دفع رشوة لتمشية معاملته في احدى دوائر الدولة، كثيرون. لكن لماذا؟ لان نظامنا المؤسساتي مبعثر بين تشعبات وصلاحيات واجراءات تشتبك مع بعضها البعض مكوّنة منظومة إدارة فاشلة ومعقدة تدفع بالفرد للرشوة، وهو ما ينسحب ايضا على اصحاب الشركات والمستثمرين وربما المؤسسات العامة التي قد تجد نفسها مضطرة للبحث عن أية وسيلة فساد ممكنة لفك الاشتباك والتداخل بينها وبين مؤسسة أخرى.
التعقيدات الإدارية واحدة من افرازات الترهل الوظيفي، فالنظام مثقل بما لا يقل عن اربعة ملايين موظف عمومي اغلبهم لا تتجاوز إنتاجياتهم سوى ١٧ دقيقة من أصل ٨ ساعات عمل يومية، وهذا ما يؤكده خبراء اقتصاديون، وهو ما يوجب بالتالي على النظام “ابتداع” مهام وواجبات عبيطة لكوادره العاملة لا تخلق غير الجمود والتراجع في آداء القطاع العام، وتشكل بيئة خصبة لنمو وتطور الفساد.
الاصلاحات في هذا الجانب غالبا ما تصطدم بقيادات او حتى ملاكات وظيفية صغيرة، قادرة ومتمكنة جيدا من توظيف العراقيل في أية حلقة من حلقات التعاملات الإدارية مهما كانت تافهة او لا لزوم لها من الأساس، لتحقيق منافع شخصية. انها باختصار حلقة مفرغة محورها نظام سيّء وموظفون منتفعون من مساوئه، كبار وصغار، وأفراد او مجموعات شريكة في نمو وديمومة الفساد.
وكالرشوة، الابتزاز وسوء استخدام الوظيفة والمحسوبيات والتعدي على الممتلكات والمال العام كلها مظاهر فساد نمت وكبرت وتوطنت في هيكلة الدولة، ولن ابالغ ان قلت، ان المتورطين فيها يشكلون “إدارة عميقة” داخل الادارة العامة، وبإمكانهم ارباك وتعطيل الحركة الروتينية لاي مفصل من مفاصل قطاعات الدولة، مهما كان حساسا وعلى علاقة مباشرة بحياة واحوال الناس، عند مجابهتهم لأية محاولات تصحيحية هنا او هناك.
وبعبارة أكثر ايلاما ان هذه الادارة العميقة، ان صح وصفها، شبكة شيطانية راسخة الأركان ومنظمة في وجودها وفعاليتها، شبيهة بحادلة تدوس الخارجين عليها دون هوادة، ولا تكترث مهما ينجم عن منافعها من خسارات ثقيلة لمقدرات البلد.