23 ديسمبر، 2024 10:03 ص

شيزوفرينيا

شيزوفرينيا

انتقد احد الاصدقاء في صفحته على الفيس بوك مبالغة العراقيين في التعبير عن بهجتهم باستقبال العام الجديد مشيرا الى تزامن ذلك مع تفجيرات حصلت في نفس اليوم راح ضحيتها عدد من الأبرياء والى هموم متراكمة مازالت تخنق الجميع وتنغص عليهم لحظات يتفق كل العالم على استقبالها بالفرح ..ردا على المنشور انبرى البعض لانتقاد العراقيين ووصفهم بانفصام الشخصية والجنون والضياع والهروب والتخبط وكأن الحزن والانكفاء على الذات صار قدرا ملازما لهم حتى في المناسبات السعيدة منذ ان دأبوا على توديع ابنائهم الذاهبين الى جبهات القتال ليعودوا في نعوش ملفوفة بالعلم العراقي وحتى صار معتادا لهم ان يلملموا اشلاء موتاهم بعد كل انفجار ويحمدوا الله انهم لم يكونوا في نفس موقع الانفجار ساعة حدوثه !!
عندما انتهت الحرب العراقية –الايرانية في الثمانينات ، مارس العراقيون طقوس فرح مجنونة ..تجرد بعضهم من ملابسه ، وتراشقوا بالمياه ..ارتدت بعض العجائز ثيابا ملونة ورقصت اخريات في الشوارع ..ظن العراقيون وقتها انهم يودعون سنوات الموت والالم ويطوون صفحة سوداء ليبدأوا صفحة جديدة ..لم يتوقعوا ان هناك حروبا اخرى بانتظارهم وان الايام المقبلة حبلى بآلام اكبر وموت لانهائي …وحين عاشوا سنوات اخرى اكثر ايلاما وفقدوا العديد من الاحبة وفقدوا معهم الاحساس بالامان والثقة ببعضهم البعض بات الفرح شحيحا وصارعليهم ان يتجردوا لامن ثيابهم بل من تعقلهم ليصنعوا فرحهم الخاص…وهكذا فعلوا وهم يستقبلون عاما جديدا فقد تعلقوا بأهداب الجنون ليتشبثوا بالحياة وليمارسوا فلسفة زوربا اليوناني في مواجهة الحزن والألم بالضحك والرقص ، فهل يعني ذلك انهم لايعبأون بالانفجارات ولايشعرون بمعاناة النازحين ولايهمهم ان يظل بلدهم تحت رحمة من يقضم بهجته بنهم ويقوده نحو الخراب والانهيار بخطى حثيثة ؟…لاأظن ذلك ، فالعراقيون ادمنوا الموت حتى اصبح رفيقا لهم ولأن “
الموت موجود لابوصفه نقيضا للحياة بل بوصفه جزءا منها ” كما يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي فلايجب أن نلومهم عل اختلاق الفرح او التعبير عنه بمايشبه الجنون فهذا لايعني اصابتهم ب” الشيزوفرينيا” بل انتظارهم لحدوث تغيير ما في وتيرة حياتهم ..
لقد يئس العراقيون من قدوم حكومة تمحو آلامهم السابقة وتمنحهم حياة افضل ومستقبلا اجمل فصاروا ينتظرون قدوم الاعوام الجديدة عسى ان تحمل معها التغيير الذي ينشدونه ..لايمكن لهم ان يتوقفوا في محطات الجزع والحزن واليأس مادامت الحياة مستمرة ..لكن مشكلتهم الوحيدة انهم لايجيدون استخدام الوسائل المعقولة للتغييرمن اصوات انتخابية فاعلة ورفض لكل من يسهم في تأخير وتدميرالبلد ، ويلجأون الى وسائل لامعقولة في ممارسة فعل الفرح الفاضح في وضح الألم …
لعلهم يؤمنون بما يقوله اطباء علم النفس حول استقبال العام الجديد بالضحك للتخلص من الهموم وتقليل الأمراض ، لكن الأمر فاق الضحك الى الصخب والمبالغة في اطلاق الالعاب النارية لدرجة وقوع اصابات عديدة ..وفي كل الأحوال ، فهم يحاولون ان يشعروا بانهم مازالوا أحياء قبل ان يصبحوا رقما في قائمة ضحايا الانفجارات او ان يعودوا الى اهاليهم في نعوش ملفوفة بالعلم العراقي ..