حاولت الهروب من تساؤلات قد تكشف خبايا نفسها بالأقتراب منه، لم تكن تدرك ان كانت فكرتها هذه سديدة أم لا.. لكنها تحاول، فربما تستطيع تسديد بعضا من سهام عينيها الجميلتين نحوه، عادة قديمة تلجأ اليها الأنثى كلما شعرت بقرب هزيمتها، فهذه السهام كفيلة بجعلها تشعر بلذة النصر، فلا معنى للهزيمة في قواميس المرأة، ففي أوج خسارتها تحتفل بالنصر.
خطوتين أو ربما أقل بقليل المسافة التي سمحت لنفسها أجتيازها على شفا حدود أبتدعها ذهنها للحفاظ على الصورة التي رسمتها للشخصية التي تريد طبعها في أذهان من حولها، والتي كان للخجل لمسات واضحة في ثناياها.. أو لعل دنوها منه يخفي توترا بدت ملامحه جلية على قسمات وجهها الذي يبعث على الأمل في دروب طالما أغلقتها الحياة بوجه مثل هذه الملامح.
كانت تتأمله بحذر وهو يطرح أسئلة لم تكن ذات شأن، وهو يعلم أيضا انها كانت كذلك.. لكنها أثارت في نفسها تساؤلات أكبر عن مغزاها، غير انها لم تجرؤ على طرحها بل أكتفت ببعض الكلمات، لم تتذكر منها سوى تلك التي كتمتها في نفسها مكتفية بتلميحاته التي تكاد تشبه تلك الكلمات.
لم يكن ليستطيع إطالة النظر في ذلك السحر المنبعث مع بريق عينيها لأكثر من لحظات لم تكن كافية لأشباع رغبات التأمل في ذلك البريق ليستسلم على مضض مكتفيا بتطويق خصرها الممتلئ بنظرة لم تكن أقل جرأة من نظراتها، سارحا ببصره في مساحات ممتدة حول جسدها وهو يعريه بناظريه حتى بدا له غضا دفعه ليصبح راهبا عند قدها المتمرد حتى التجبر بسلبه العقول التي داعبها بتمايله المجنون.
لم ينتبه أحد ممن حولهما الى اللغة التي يتحدثان بها، رغم انها مألوفة لدى الجميع الا انه لم يفهم احد منها حرفا واحدا سواهما، رغم ذلك فقد كانا يتربصان بالنظرات التي تحيط بهما من كل جانب ويصغيان للهمس الذي يدور جوارهما، كلا ممن حولهم كان مشغول بهموم لم يعبئا لها، هذان مرا بجانبهما وهما يتحدثان عن أمور في العمل، وتلك فتاة تبتسم لهما وهي تجري مكالمة هاتفية من هاتفها الجوال، وخلفهما مجموعة تتفق على المكان الذي سيتناولون به عشاءهم.. فعلا انه موعد العشاء لكنه لم يرغب ان يتركها ليقضي فترة استراحته في تناول الطعام خصوصا ان شهيته للحديث معها قد بدأت تصل الى مرحلة النهم، نهم كل الكلمات التي تخرج من بين شفتيها الـ.. دقق النظر في شفتيها لبرهة، لكنه عجز عن وصفهما ربما كانتا جميلتين، لكن ماهي مقايسس الجمال التي يعرفها عن الشفاه، لم يفكر طويلا فحسبه انهما كانتا طريتين، وشعر أيضا بأنها لا تريد تركه ليس شغفا لكن ثمة شيء ما يمنعها من تركه لوحده، ربما لأنها لم تتعود على اجواء العمل بعد، ربما لأنها كانت تريد ان تعرف امورا تجهلها عن نفسها، ربما.. لكن من المؤكد ان هناك شيء ما..
أنصتت له بأهتمام رغبة منها بالأنصات دون ان تبدي شغفها، وبين لحظة وأخرى تتساءل مع نفسها، ما الذي يحدث هنا، ولم تشعر بالأطمئنان لوجوده قربها رغم انها تريد الهرب منه اذ انها لا تحبذ فكره انقيادها لمعبده، وكأن همساته تغزو ذهنها حتى قيدتها، تلك الهمسات التي تعيد الى ذهنها لحظات من العمر كانت تظن انها قضت، لكن يبدو ان تلك اللحظات ليس لها ان تموت قبل أن نحيا، انها كالشياطين التي لا تفارقنا حتى يتحقق مرادها بخطيئتنا، فهي شياطين الروح..
الغريب انها لوهلة شعرت ان شياطين روحيهما ألتقت في غفلة من زمن توقف عند لحظة أقترابها منه، تلك اللحظة التي لاتقارن بالثواني والساعات التي تمر على حياتنا، لحظة لها مقاييس خاصة، وقتها غير معلوم رغم انه طويل جدا الا اننا نشعر بقصره، غير ان لذتها تبقى كعبير يعطر الروح.
انها شياطين الروح حقا، لم تعد تشك بهذا مطلقا، لكن هذه الفكرة كانت مرعبة بالنسبة لها، بل وتكاد تقتل ماضيها، وتمحو ثلاثين عاما من ذاكرتها بكل مافيها من آلام ومسرات، بدموعها وضحكاتها، شيطان لكل عام، وشيطان لكل ألم، وشيطان يدفعها للأقتراب أكثر، وشياطينه ترقص فرحا وهي تصفق لشياطينها..
لهفة الشوق يخمدها احيانا لقاء العيون، لكن لهفته لم تخمد حتى بعد ان سبر أغوار روحها، فشياطين روحه تدفعه للألتفاف حول روحها لتمزق كيانها القديم وترقص معه على أنغام هوىً يستفز غرائزه، لكن لمحة الخجل على محياها كانت مصدا رادعا لرغباته ليصارع شياطينه التي تزيد عن شياطينها باكثر من خمسة عشر آخرين اذ يستفزونه لكي يستسلم منقادا لهم، لكنه خرج أخيرا بنصر لم يكن يرغب به كثيرا، فالهزيمة بين أحضانها غاية لم يدركها..
كما لم يدرك ان نصره على شياطينه كان زائفا اذ ان رنين منبه الساعة التي ضبطتها على توقيت معين في جوالها كان نذيرا لها بقرب فترة جديدة من عملها، تمعنت في جوالها عدة مرات وهي تسترق النظر اليه وكأنها تستأذن منه للهروب.. وحين حانت لحظة الهروب استعادت كل ذكرياتها ولحظات ظنت لوهلة انها لم تعد موجودة..