الخطة الانفجارية كان يفترض ان تغطي الفترة ١٩٧٦-١٩٨٠
وقد كان النشاط الاعلامي المحيط بها يقول انها سوف تُخرِج العراق من تصنيفه كدولة نامية ويصبح ضمن الدول المتقدمة ..
عند إعداد الخطة وقبل اطلاقها كنت طالباً في فرع الاقتصاد في السنة الرابعة، وكان المرحوم الدكتور عبد المنعم السيد علي يدرّسنا مادة النظرية النقدية . في احدى محاضراته تطرق الى العمل الجاري لإعداد خطة جديدة للتنمية وبَدءْ النقاش حول ذلك.
قال الدكتور انه شارك كاستشاري في اللجنة التي ناقشت الخطة ، وعندما علِم انها انفجارية وتشمل كل القطاعات وكل شيء ، أعترض وقال يجب البدء بتطوير البنية التحتية للاقتصاد لانها متهالكة وضعيفة ولاتتحمل عبء تنمية من هذا النوع . هذه الخطة سوف تشكل ضغطاً واختناقات .
يبدو انهم رفضوا رأيه وأصرّوا على التنمية الانفجارية، وكان منزعجاً حقاً من ذلك الرفض والاصرار على جَعلِها انفجارية وتغطّي كل شيء.
احد زملائنا ( وكان من اقارب السلطات) اعترض على ذلك الانزعاج وقال له : لماذا تتكلم امامنا ولاتقدم وجهة نظرك امام المسؤولين لأن ابوابهم مفتوحة؟
اجابه الدكتور بكبرياء ،انه قدّم وجهة نظره ورُفِضت وانه لايخشى من ذلك.
في الاقتصاد هنالك مفهوم مهم هو : مفهوم الطاقة الاستيعابية( absorptive capacity) ، وهو يعني قدرة الاقتصاد على استيعاب الاستثمارات الجديدة بكفاءة ودون اختناقات وتعطل.
الحكومة كانت تمتلك الاموال الكثيرة نتيجة ارتفاع اسعار النفط، لكن ذلك لايكفي للبدء بالتنمية، لانه لايملك الطاقة الاستيعابية.
البلد لايمتلك البنية التحتية المطلوبة لذلك ، فالطرق قديمة والجسور والسكك الحديدية والموانيء ونُظم الاتصالات والمطارات والمخازن كلها بسيطة وقديمة الخ .
كان المفروض البدء بتطوير البنية التحتية كخطوة اولى ثم الانتقال الى التنمية القطاعية من خلال مشروعات الانتاج السلعي والخدمي..
عندما بدأ تنفيذ الخطة تم البدء بآلاف المشاريع في كل القطاعات ، وهنا بدأت المشاكل في الظهور .
من الأمثلة على تلك المشاكل والاختناقات التي لاتحصى ، انهيار أحد ارصفة ميناء البصرة بسبب عدم تحمله لثقل المواد المستوردة الموضوعة فوقه لانه غير مصمم لتلك الاحمال. ضاعت كل المواد التي كانت فوقه في البحر.
السفن التي تنقل السلع للعراق ، كانت تتأخر لاشهر طويلة لعدم قدرة الموانيء على تفريغها .
كانت حكومة العراق تَدفَع لاصحاب السفن غرامات تأخيرية كبيرة بحيث ان البعض كان يُرسِل سفن قديمة لكي تتأخر ويستلم غرامات اكبر من قيمة السفينة نفسها.
الطرق تحطمت من كثرة الشاحنات وثقل تلك الشاحنات مما حول شوارع المُدن العراقية الى خراب وغبار مستمر.
في اجتماع مع المرحوم حسن العامري وزير التجارة في النظام السابق، قال : واجهنا ندرة في سوّاق الشاحنات بسبب كثرة المشاريع ، لذلك وجدنا حلاً عبقرياً بأن استوردنا شاحنات بحمولات ثقيلة. ذلك جَعَلنا نستخدم سائق واحد لنقل ضعف الحمولة.
لكن النتيجة كانت تدمير الشوارع نتيجة ثقل الشاحنات !!
تكاليف تنفيذ المشاريع ارتفعت كثيراً بسبب معرفة الشركات التي تنفّذ المشاريع بالصعوبات التي تواجه عملها والاختناقات والصعوبات المختلفة التي تواجهها. كما ان بعض الشركات استغلت تلك الظروف للمبالغة في تكاليف تنفيذ تلك المشاريع.
ذلك يعني ان المشاريع سوف لن تكون قادرة على المنافسة مع المنتجات المُستورَدَة للمشاريع المشابهة … يعني انها تولد ميتة… كان الهاجس هو امتلاك المشروع بالمعنى المادي وليس بالاهتمام بالقدرة على توليد الفائض والمساهمة في التنمية الحقيقية وليس الديكورية فقط..لم تكن هنالك دراسات جدوى بالمعنى الحقيقي لذلك كانت المشاريع في معظمها ديكور تنموي ..
قال الرئيس ذات مرة في حديث بثّه التلفزيون : قلنا لهم ، كم تطلب الشركات لكي تأتي للعمل في العراق؟
كم يعطونهم في الدول الأخرى؟ ضاعفوا لهم المبلغ !!!!
ناهيك عن شحة المهندسين المقيمين والمشرفين على اعمال الشركات الاجنبية …
الشركات لم تكن تجد بيوتاً تُقيم فيها مكاتبها ،،ارتفعت الاسعار وتعرض الناس الى ضغوط كبيرة ..
وانتهت الخطة وضاعت الآمال بقيام الحرب مع ايران..
اختم ، بحديث دار بيني وبين أحد الاساتذة في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية في الثمانينيات ، عندما حدثته عن خطة التنمية الانفجارية .. حيث استوقفني قائلاً : ماذا تعني بانفجارية ؟
قلت له : اقصد انها ذهَبَت في كل الاتجاهات..
ضحك قائلاً: كيف تسميها خطة؟
انها فوضى ..الخطة لها اهداف محددة وتوقيتات وحسابات..
النتيجة كانت ضياع دولارات النفط وضياع ماتبقى منها في الحرب..