23 ديسمبر، 2024 9:10 ص

شهيد ام مسافر ؟…

شهيد ام مسافر ؟…

في الثمانينات ..ساد فجأة صمت رهيب في الشارع ..توقفت جميع المركبات والمارة وانطلقت ضربات مدفع واجراس كنائس واصوات مؤذني الجوامع ..لم يدم الأمر الا دقائق احتفاءا بيوم الشهيد العراقي خلال الحرب العراقية –الايرانية لكنه ظل يذكرنا بمعنى الشهادة ..معنى ان يمنح الانسان دمه ليعيش الآخرون سواءا كان مجبرا او مخيرا …وفي العراق ، لم يتوقف مسلسل الشهادة مادام الدم العراقي رخيصا لدى حكوماته فالعراقي كان حطبا لحروب الدكتاتور السابق واستمر مشروعا للموت بعد مجيء عصر آخر كان يفترض ان يرتفع فيه ثمن الدم العراقي بزيادة قيمة الانسان العراقي في زمن بطلته الرئيسية الديمقراطية وبطله الرئيسي التغيير لكن الديمقراطية اثبتت فشلها منذ ان صارت الانتخابات لعبة يفوز بها من لايجيد حماية الدم العراقي والتغيير لم يشمل البلد بل طال النفوس والضمائر ، وهكذا تزايد عدد الشهداء وتزايد معه طرديا عدد الايتام …

قبل ايام ، جرى الاحتفال باليوم العالمي لتوقيع اتفاقية حقوق الطفل ..كان تعليق احد الحضور في احدى الاحتفاليات ..” لو كان هناك حقوق للطفل العراقي لمنحوه حليبا في الحصة التموينية !!”…اما مديرة احدى المدارس الابتدائية فقد حاولت ان تجمع بين تلك المناسبة ويوم الشهيد بتقديم هدايا للاطفال الأيتام لذا طلبت من معلماتها تقديم قوائم باسماء الايتام لتخصص لهم هدايا وهالها عدد التلاميذ الذين امتلأت بهم القوائم …وحده الصغير مصطفى لم يجد الجرأة للانضمام اليهم فهم لم يعرف حتى الآن ان كان والده ميتا او مسافرا كما تخبره والدته دائما ..كان مصطفى يدرك في قرارة نفسه ان والدته لاتقول له الحقيقة فمن يموت لابد ان يدفن وهو لم يشعر يوما ان لوالده قبر ..كان يجهل ان والده اختطف على ايدي عصابة مسلحة ولم يعد ماجعله ميتا في نظرهم ، لكنه كان موقنا ايضا ان والده ليس مسافرا كما تقول والدته …هل هو يتيم اذن ؟…استكثر مصطفى الصفة عليه ولم يضف اسمه الى القائمة وقرر ان يصدق اكذوبة والدته وينتظر عودة والده من السفر !!

بهذه الطريقة فقد العديد من الاطفال آبائهم ليفرزوا شريحة الايتام التي تزداد اتساعا..وبالتدريج صار غياب الاب حالة طبيعية رغم مافيها من مرارة ، وصار على المجتمع ان يتقبل نتيجة غيابه فيقدم لليتيم معونات وهدايا في المناسبات وتتسابق منظمات الطفولة لاقامة الاحتفاليات وتقديم الهدايا له ..ولكن ، هل ينتظر يتيم مثل مصطفى هدية مقابل غياب والده ؟…لايمكن اجراء مقارنة بين الأمرين لاستحالة وجود تعويض مناسب عن غياب السند ونبع الحنان وجدار الحماية ..

اذن حقوق الطفل العراقي يجب ان تبدأ بتوفير حليب له في الحصة التموينية ثم توفير الأمان الذي يفقده الطفل بفقدان والده والاكتفاء المادي لكي لايمر يوم تعجز فيه الامهات عن تلبية طلبات ابنائهن ، والعناية الصحية والتعليمية والنفسية ..من حق الطفل العراقي اليتيم ان يجد من ياخذ بيده وينتشله من الاحساس بالوحدة والخوف في مجتمع يستند على الرجال في زمن غياب الرجال ..ومن حق اطفال مثل مصطفى ان يحلوا اللغز الذي خلفه غياب آبائهم بأن يعرفوا مصيرهم ..وجولة مخلصة من رجال الحكومة في السجون والمعتقلات ربما تعيد العشرات من الآباء الغائبين الى ابنائهم عسى ان يحدث الأمر فرقا في قوائم الأيتام فتشمل ابناء الشهداء فقط وهم اصلا مازالوا في تزايد مادام مسلسل الشهادة مستمر والدم العراقي رخيصا على حكوماته ..