هناك في مدننا العراقية أمهات كثيرات ثكلن بأولادهن، نتيجة حادث انفجار او اغتيال، او بمعركة من المعارك الكثيرة، الكبيرة منها والصغيرة، والأخيرة هذه كان يسميها “عمو صدام” الـ “كونه” ولالوم ولا عتاب ولاجناح عليه، فالرجل كان دمويا وفاشيا ودكتاتوريا وقمعيا… وما الى ذلك من مواصفات أهلته لأن يُدخل العراق في متاهات الحروب بأشكالها، فحرب الرزق وحرب الصحة وحرب الكهرباء… فضلا عن حروب النار والبارود، كانت جميعها قائمة على قدم وساق، وكان العراقيون في وضع (إنذار ج) 24 ساعة في اليوم وعلى مدار السنة. وإن لم تكن الأمهات قد ثُكلن بهذي الحرب او بتلك، فيكفي أبناءهن الضيم الذي كتب على العراقيين بعد زوال مقبورهم كما كتب على الذين من قبلهم، أن يكون سببا لضياعهم وتشتتهم في بقاع الأرض وفي غياهب الغربة والوحدة، وفي الأحوال كلها ألم الأمهات واحد على بنيهن وإن تفاوت وقعه على قلوبهن. إلا أن الوقع الأثقل وطأة عليهن بعد وقوع المقدر والمحتوم لأولادهن، هو ردود أفعال أولي أمر البلد الحاليين تجاه مصابهن، إذ لم يطيّب خواطرهن موقف من الحكومات، مع أن الأخيرات هي السبب فيما حدث لفلذات أكبادهن، بسوء إدارتها وتخبط قراراتها، فضلا عن ثغرات عديدة تفشت في مفاصلها، بين تهاون وتراخٍ وتواطؤ وفساد، وصراع على تقسيم المكاسب، واختلاف على توزيع المناصب، وتبعا لهذا أضحت البلاد عرضة لمن هب ودب، من قطاع الطرق ومتحيني الفرص، والسارق والسائل وابن السبيل وابن الحرام. وبين اليأس المطبق على حاضرنا المتردي وسط إهمال الحكومات، وانقطاع الأمل بمستقبل تأتي فيه إحداها بجديد، يضيع دم الشهيد بعد انقضاء الثالث والسابع والأربعين و (دورة السنة) وتُميع حقوقه ومستحقات عائلته في طيات إضبارة معاملة الشهيد، بين مؤسسات الدولة ووحدته القتالية ودوائر أخرى عديدة، فينحسر مصير أمهات الشهداء بين شظف العيش وبؤس الحال، وبين انعدام المعيل وحاجة العيال.
وأكبر الطامات -وهي كثيرة في عراقنا الجديد- أن ضياع الحقوق هذا يحدث وسط مجتمع يعج بالمنابر ومتحدثيها، وبالجوامع وشيوخها، والحسينيات وساداتها، وبرجال دين بقلنسوات بيض وأخريات سود، ينعبون في كل نادٍ، وينعقون في كل وادٍ، يتلون ماتيسر لهم من السور والآيات والأحاديث والعظات، منادين بالتكافل الاجتماعي ونصرة الفقير والرفق بالقوارير، وفي حقيقة الأمر.. لاجير ولابسامير..!
ولو عدنا بذاكرتنا الى سني الثمانينيات، سني الحرب العراقية الإيرانية، فإننا ملزمون بقول حقيقة لامناص لنا من الإقرار بها، فرغم طيش صدام وعنجيهة نظامه ودمويته، فإنه عرف كيف يغطي بعض مساوئه ببضعة إجراءات وسياقات، كانت -بصرف النظر عن قصده منها- منصفة أمام الرأي العام وعادلة بعين فئات مجتمعية عديدة. فقد كانت للشهيد في تلك الحرب حقوق وامتيازات يتمتع بها ذووه وورثته، وكانوا ملزمين باستلامها. فصدام إذن، بقراراته المرحلية تلك، كان قد ذر الرماد في العيون، رغم أن نيته سيئة، ومأربه فيها لم يكن أكثر من كسب سمعة تسبغ عليه مجدا مزيفا ووطنية مموهة، في حين هو بعيد عنهما بعد الثرى عن الثريا.
ولو طوينا صفحة المقبور -او كما يحلو لبعضهم نعته بمفردات الشهيد او المرحوم- نجد في عراقنا الديمقراطي التعددي الفيدرالي آلاف الحقوق المضيعة، والاستحقاقات المؤجلة الى أجل غير مسمى، فعلاوة على حقوق ملايين الأحياء، هناك حقوق من قدموا أعلى مراتب التضحية، وأغلى مايملكون في دنياهم، مخلفين وراءهم أفواها فاغرة، وعوائل تعيش ظروفا تضاعف معاناة الفقدان وتفاقم وطأته، حيث معاناة العوز والفاقة والحاجة، وماتفرزه من مرض وجهل وضياع، وقطعا هذا أمر يدركه ساسة البلد المحصنون، والذين في خضرائهم يعمهون. فهل يصح وصف هذا الحال بمثلنا الدارج؛ (يجد ابو كلاش وياكل ابو جزمه)؟.
[email protected]