18 ديسمبر، 2024 9:44 م

شهر رمضان وأهم جوانبها

شهر رمضان وأهم جوانبها

كل عبادة ظاهر وباطن، فالأحكام الواجبة والمستحبة تعين الشكل الظاهري لهذه العبادة، أما الإرادة والنية فهما يعينان باطن هذه العبادة، والقرآن الكريم يدعونا إلى ظاهر العبادة، ويعرفنا أسرار العبادات، ففي خصوص الصيام يعرفنا اصله وشهره وساعاته وبدايته وخاتمه، وكل خصوصيات هذا الشهر المبارك، (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، (البقرة: 185) فإذا شاهد أحد هلال شهر رمضان فعليه أن يصوم، ويقول في مكان آخر: (أتموا الصيام إلى الليل)، (البقرة: 187) فيكون الليل ختام الصوم، أما بدء الصيام فيقول: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)، (البقرة: 185 ـ 187) وأما سر الصيام فقال: (لعلكم تتقون) (البقرة: 183) (ولعلكم تشكرون)، (البقرة: 185) فالإنسان يصوم ليكون تقياً، وقد جعل الله التقوى مدار كرامة الإنسان، فأكثر الناس يصوم ليكون تقياً، وقد جعل الله التقوى مدار كرامة الإنسان، فأكثر الناس تقوى أكثرهم كرامة، إن باطن الصيام أن يصبح الإنسان مكرماً، وقد تكلمنا على الكرامة في البحوث الماضية، وقلنا: إنها من الأوصاف البارزة للملائكة، فالملائكة كرام، والكريم غير الكبير وغير العظيم وغير المحترم.
يقول الإمام الصادق (ع): “لا نعبدهم إلى حباً، هل الدين إلا الحب!؟) يقول تعالى: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون)، (الواقعة: 77 ـ 79) وهذا جزء من الأسرار التي لا يصلها أي أحد كان، فكما أن باطن القرآن في الكتاب المكنون: (لا يمسه إلا المطهرون) فهكذا حب العبادة، أي أنه ليس بمقدور كل أحد أن يحب العبادة ويحب المعبود، فالله سبحانه أمل المشتاقين، “بمحبتك يا أمل المشتاقين”، فالشوق هو الذي يجذب الإنسان نحو الله سبحانه وليس إلى الجنة، فهو أمل المشتاقين والأمل غير الرجاء الأمل هو الذي يجعل من الإنسان الذي لا يتحمل، إنساناً صبوراً، متحملاً هادئاً، يأمل الإنسان شيئاً، وآخر يتمناه وهو دائماً يسعى لأن يحقق ما يتمناه، فالذي لا يشتاق إلى الله لا يصلح أو لا يصح أن نصفه بالشوق، الشوق الصادق وهو الذي لا يرى فيها الإنسان غير الله سبحانه في البداية يكون الشوق، ثم يكون العشق، والمشتاق هو الذي لا يملك الشوق بل يطلبه، أما العاشق فهو الذي يملك العشق.
هذا هو الفارق بين الشوق والعشق، إذ يقال للعطشان الذي يسعى للوصول إلى عين الماء: أنه مشتاق للماء، وعندما يصل إلى الماء ويأخذ منه ويحتفظ به يقال له عاشق الماء، فالشوق قبل الوصول والعشق بعد الوصول.
ومن اجل تطبيع الإرادة الإنسانية، عمد الشارع المقدس إلى تدريب هذه الإرادة على إطاعة إرادته والخضوع لها، فاختار وسيلةً سهلة لذلك، وبرنامجاً مبسطاً يستطيعه كل إنسان مكلف، يلتزمه شهراً كاملا في كل سنة.
فعندما يذكر القرآن الكريم قصة صيام هؤلاء الأبرار ال محمد ص واله) يقول: (ويعطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً)، أحضر الإمام (ع) مقداراً من الحنطة أو الشعير، ثم طحنوه، وصنعوا منه خبزاً لافطارهم فجاءهم مسكين عند الافطار في أول يوم من صيامهم، يطلب طعاماً، فأعطوه حصصهم من الطعام وأفطروا بالماء الخالي.
وفي اليوم الثاني صاموا وعملوا خبزاً من بقية الطحين، فجاءهم يتيم عند الإفطار بطلب طعاماً، فناولوه طعامهم كله، وأفطروا بالماء الخالي.
وجاءهم عند انتهاء اليوم الثالث أسير، فأعطوه ما صنعوه من الخبز وأفطروا بالماء الخالي، فنزلت بحقهم آيات مباركات في سورة (هل أتى) إن حضور فضة واشتراكها معهم في عملهم يبين أن الإنسان العادي يستطيع أن يقوم بمثل هذا العمل.
وبعد هذه المقدمة والذي هو من ارق الدساتير و البرنامج التربوية عند أهل البيت (ع) في شهر رمضان.
فمن الممكن ان يتم تقسيم هذا البرنامج التربوي عند أهل البيت(عليهم السلام) إلى ثلاثة أقسام هي:
الأول:- جزء الصوم الذي يتعلق بالجانب العبادي .
الثاني:- جزء الصوم الذي يتعلق بالجانب الغذائي
الثالث:- جزء الصوم الذي يتعلق بالجانب الاجتماعي.
الأول:- جزء الصوم الذي يتعلق بالجانب العبادي .
يقول محمد تقي المجلسي ـ قدس الله نفسه الزكية ـ في كتاب روضة المتقين في شرح كتاب من لا يحضره الفقيه ـ الذي هو من كتب الإمامية القيمة ـ، [روضة المتقين: ج3، ص225] إن الله عز وجل لم يكتف بالقول (الصوم لي) بل قال: (وأنا أجزي به) وهنا قدم ضمير المتكلم على الفعل، ولم يقل وأجزي به، بل قدم نفسه تعالى وقال: الصوم لي وأنا أجزي به، أنا أعطي ثواب الصائم، فالله سبحانه لا يقول للملائكة: أدخلكم الجنة ولكن يقول: أنا أجازي الصائم، فكيف يجازي الله الصائم؟ إنه يقول لمجموعة من البشر: (فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، (الفجر: 30) فهي لأولئك الأولياء الربانيين الذين يصومون الصيام المستحب، ويعطون إفطارهم لليتيم والمسكين والأسير، وأولئك تكون (جنات تجري من تحتها الأنهار)، باختيارهم وتحت تصرفهم، لأنهم يسعون لمطلب أسمى، أما الذي يصوم لكي يدخل الجنة ويأكل من فاكهتها، فلا يحصل إلا على فائدة واحدة فقط.
لقد بينت الروايات بعض الحكم الظاهرية للصيام يسأل هشام بن الحكم الإمام الصادق (ع): لماذا أصبح الصيام واجباً على النا؟ فقال (ع): “إنما فرض الله ـ عز وجل ـ الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك إن الغني لم يكن يجد مسَ الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله ـ عز وجل ـ أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف فيرحم الجائع”، [علل الشرائع]. لأن الفقير والغني في الامساك عن الطعام سواء، حيث يحرم عليهم الأكل والشرب، فالناس الأغنياء لا يشعرون بالجوع والعطش وهم بالصيام يحسون بهما، ومن ثم يحسون بجوع الفقراء لهذا فرض الصيام عليهم ليتعاونوا مع الفقراء، وهذه أقل درجة من معاني الصيام.
على الإنسان أن لا يملأ بطنه طعاماً في غير شهر رمضان، حتى يحس بجوع الفقراء، أو في الأقل حتى لا ينسى أن هناك فقراء في العالم، فالله سبحانه يريد أن يساوي بين الجميع، ليطلع الأغنياء على جوع الفقراء.
وهذا الحديث الشريف يبين جزءاً يسيراً من معاني الصيام، ولرب سائل يقول، إذا كانت علة الصيام هي هذه فلماذا يصوم الفقراء؟ ليس الصيام أن يجوع الإنسان ويعطش، وليس هو الامتناع عن الأكل والشرب، إنما الصوم يصل بالإنسان إلى التقوى والكرامة ـ الكرامة التي وصفت بها الملائكة ـ.
يذكر الإمام علي بن موسى الرضا (ع) علة الصيام في رسالته التي بعثها إلى ابن سنان يقول: “العرفان مس الجوع والعطش ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً ويكون ذلك دليلاً له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظاً له في العاجل دليلاً على الآجل ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة”. [علل الشرائع].
ولنعد إلى صلب الموضوع، فنقول ان البرنامج العبادي عند أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الشهر المبارك على قسمين.
الاول:- أعمال عامة يقوم بها المكلف كل يوم من أيام هذا الشهر.
الثاني:- أعمال مخصوصة في بعض الليالي والأيام.
الثاني:- جزء الصوم الذي يتعلق بالجانب الغذائي
فعن أبي عند الله (ع): «أفضل سحوركم السويق والتمر» وعن جابر، عن أبي جعفر (ع): «كان رسول الله(ص) يفطر على الأسودين، قلت: رحمك الله، وما الأسودان؟ قال: التمر والماء، والزبيب والماء، ويتسحر بهما».
هذا كله بالنسبة إلى السحور.
وأما الإفطار فقد ورد الاستحباب في الإفطار على (الحلواء أو الرطب أو الماء ولاسيما الفاتر والتمر أو السكر أو الزبيب أو اللبن أو السويق).
فعن أبي عبد الله (ع): «كان رسول الله (ص) أول ما يفطر عليه في زمن الرطب، الرطب وفي زمن التمر التمر»(.
وعنه (ع) أيضا: «كان رسول الله (ص) إذا افطر بدا بحلواء يفطر عليها، فان لم يجد فسكرة أو تمرات، فإذا أعوز ذلك كله فماء فاتر، وكان يقول: ينقي المعدة والكبد، ويطيب النكهة والفم، ويقوي الأضراس، ويقوي الحدق ويجلو الناظر، ويغسل الذنوب غسلا، ويسكن العروق الهائجة، والمرة الغالبة ويقطع البلغم، ويطفيء الحرارة عن المعدة، ويذهب بالصداع».وعنه (ع) أيضا: «ان علياً (عليه السلام) كان يستحب ان يفطر على اللبن»([16]) وروي أيضا انه (ع) كان يفطر على السويق(.
وروي ان النبي (ص) كان يفطر على الأسودين: التمر والماء، والزبيب والماء
وقبل ان اختم الحديث عن البرنامج الغذائي أود الإشارة إلى مسألة وقت الإفطار، أينبغي كونه قبل صلاة المغرب ام بعدها؟.
الوارد في نصوص أهل البيت (عليهم السلام) هو استحباب تقديم الصلاة، لان الصلاة مع الصوم أفضل منها بدونه، وقد قال الإمام الصادق (ع) لمن سأله عن ذلك «أبدا بالصلاة فإنها أفضل من الإفطار، وتكتب صلاتك وأنت صائم أحب إلي»([19])
ولكن هذا الاستحباب مشروط بالقدرة والطاقة، وان النفس لا تنازع الإنسان على الإفطار، لما روي عنهم (عليهم السلام) : «ان كنت ممن تنازعك نفسك للإفطار وتشغلك شهوتك عن الصلاة فابدأ بالإفطار ليذهب عنك وسواس النفس اللوامة).
وهناك شرط آخر، وهو ان لا يكون معه قوم يخشى ان يحبسهم عن عشائهم فليفطر معهم وأود ان أقف عند هذه النقطة قليلا لأؤكد ان من أخلاقيات الإسلام لزوم احترام إرادة الجماعة ومراعاة حالهم، فالصلاة وان كانت أهم من الإفطار ولكن احترام إرادة الآخرين تجعل من الإفطار أهم من الصلاة، هكذا الأمر في صلاة الجماعة فان إتيان الصلاة مع مستحباتها متأنيا أفضل من أدائها بدون ذلك، ولكن على الإمام ان يراعي اضعف مأموميه وان استلزم ذلك الاقتصار على واجبات الصلاة فقط.
ليس مقام الأئمة (ع) من البساطة بحيث نصفهم بأنهم أشخاص جيدون يقول الإمام الرضا (ع): لا يمكن أن تعرفوا الإمام وهو كالشمس الطالعة في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، أين العقول من هذا؟ وأين الاختيار من هذا؟ فكما أنه ليس، بمقدور أحد أن تصل يده إلى نجوم السماء، كذلك لا يصل عقل الإنسان لادراك مقام الإمام.
عند تتبع روايات أهل البيت(عليهم السلام) نجدهم يلتزمون برنامجاً غذائياً معيناً عند السحور، وعند الإفطار فإنهم يتناولون أنواعاً معينه من الطعام، وكانوا يوصون بها إتباعهم.
وأول ما يطالعنا من ذلك حثهم (ع) على تناول الطعام في السحور، لاسيما في صيام شهر رمضان بحيث يعد تركه أمرا مكروهاً، وليس الغرض من ذلك هو إشباع غريزة الطعام، بل لأجل التقوي به على صيام النهار. كما ورد ذلك عن النبي الأكرم(ص) حيث قال: «تعاونوا بأكل السحور على صيام النهار، وبالنوم عند القيلولة على قيام الليل»، وعن أبي عبد الله (ع) قال: «لو ان الناس تسحروا ولم يفطروا إلا على ماء قدروا على ان يصوموا الدهر»، وعن أمير المؤمنين (ع) عن النبي الأكرم(ص) انه قال: «ان الله تبارك وتعالى وملائكته يصلون على المتسحرين والمستغفرين بالأسحار، فليتسحر أحدكم ولو بشربة من ماء».
الثالث:- جزء الصوم الذي يتعلق بالجانب الاجتماعي.
ومما يروى في هذا المجال عن الإمام زين العابدين (ع) مع ما يروى عنه من الإكثار من العبادات والتهجد والتسبيح والتهليل والدعاء في هذا الشهر، يروى انه كان عند الإفطار يأمر بإشعال النيران ووضع القدور وطبخ الطعام، وبعد أن ينضج يأمر غلمانه أن اغرفوا لإل فلان، ولإل فلان .. وهكذا ويروى عنه أيضا انه كان يجمع عبيده في آخر ليلة في شهر رمضان فيقول لهم انتم أحرار لوجه الله تعالى، ولكن أدعو لي ان يعتقني ربي يوم القيامة كما أعتقت رقابكم.
ولهذا ورد الحث الأكيد على تفطير الصائمين، فعن الصادق (ع): ((ان أيما مؤمن اطعم مؤمنا نعمة في شهر رمضان، كتب الله له اجر من اعتق ثلاثين رقبة مؤمنة وكان له عند الله(تعالى) دعوة مستجابة)).
مما يؤكد هذا الغرض أي (التفكير بالغير) جملة من الروايات التي تحدثت عن علة الصوم وحكمته، فمن ذلك ما روي عن أبي عبد الله (ع) في علة الصيام حيث قال: ((إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك ان الغني لم يكن ليجد حس الجوع فيرحم الفقير، لان كلما أراد شيئا قدر عليه،)).
ويتلخص هذا البرنامج عند أهل البيت (عليهم السلام) بعبارة مختصرة هي (التفكير بالآخرين) فعندما يشعر الغني بالجوع يشعر حينئذ بمعاناة الفقراء والمساكين، وعندما يمتنع الزوج عن مواقعة زوجته يشعر بمعاناة العزاب من أولاده فيشعر بمدى حاجة ابنه إلى الزواج وحاجة ابنته إلى ذلك أيضا.