في خطبة الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ما يتعلق بمنزلة شهر رمضان و بيان فضله التي استعرض فيها جملةً من الخصائص التي انماز بها هذا الشهر عن بقية الشهور ، ولعل ظاهرة ( مضاعفة الأجر) من أبرز هذه الخصائص
نحو أن تكون (أيامه أفضل الأيام و لياليه أفضل الليالى و ساعاتُه أفضل الساعات ) و (من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور) وغيرها .
فلماذا اختص الباري سبحانه وتعالى شهر رمضان بهذه المنزلة و الكرامة حتى شبهها بالضيافة المفتوحة ؟
قد يكون الجواب المتعارف بسبب اقتران نزول القرآن الكريم في هذا الشهر ليكون ظرفا في احتضان الألطاف الآلهية هو الجواب الحاضر في قراءة هذه الخصوصية وفهمها ، وهو أمر مسلمٌ به و لاغبار عليه ، لكن يبدو لي أن المقام يحتاج إلى مزيدٍ من التفصيل .
إن الفرد طيلة أحد عشر شهرًا ينغمس في الملذات و الشهوات ويتعلق بمظاهر حبِّ الدنيا من الأموال والبنين وغيرها ، الأمر الذي يُسهم في طغيان الجانب المادي ورجحان كفته على الجانب المعنوي في شخصيته ومع مرور الزمن وتراكم السنين في طول حياة الفرد يغدو وحشًا كاسرًا من حيث يشعر أو لايشعر ، وهنا تأتي وظيفة شهر رمضان في موزانة الكفة بين البعدين المادي و المعنوي ومحاولة إدراك ما فات وإرجاع الحق إلى نصابه بإزالة الرين عن فطرة الله بعد تلوثها من خلال برنامج عملي .
بيد أن هذه الأعمال التي يؤديها الفرد في شهر رمضان لايمكن لها أن تدرك ما فات مع ملاحظة النسبة في كم الأعمال التي كسبها الإنسان في أحد عشر شهر إلى ما سيؤديه في شهرٍ واحد ، إذ كيف يتم تحقيق تلك الموازنة المرجوة لسعادة الإنسان مع قصر الفترة ( أيامًا معدودات ) فضلا عن إيجاد حالة الرجحان ، ولا يفوتنا هنا أن الشريعة تستهدف في تشريعاتها ليس إيجاد حالة من التوازن بين البعدين ( المادي و المعنوي ) في شخصية الإنسان بحسب ، وإنما تريد من خلالها أن ترتقي به لاستحقاق خلافة الله في أرضه وأن تسموَ به في مدارج الكمال إلى الدرجة التي يكون فيها أفضل من الملائكة .
وهنا تأتي رحمة الله الواسعة وضيافته المفتوحة في مضاعفة الأجر و الثواب لتكون هناك حالة من إدارك ما فات الإنسان من أعمال طيلة أيام السنة ، والوعد بالحصول على أجر هذه الأعمال في الآخرة لا يعني أنه سيكون بمعزل عن أثاره في الدنيا على شخصية الإنسان وتكاملها ، إذ إن لكل عملٍ أثرًا وضعيًا بمعنى أنه يترك أثرًا ما في سموِّ روح الإنسان ورفعتها أو إضغاف الجانب المعنوي لديه وتسافله إلى الدرجة التي يكون فيها ( أضلّ من الأنعام ) مع تراكم آثار الأعمال على صحيفة قلبه .
وعليه فإن مضاعفة الأجر و الثواب ستلقي أثرهاعلى الإنسان فتفتح لديه أفاقه التكاملية على أوسع مايكون وذلك بحسب الآثار الوضعية لأداء الأعمال في شهر رمضان فتتحق الموازنة بل وترجح الكفة ومن أعظم تلك الآثار التي تتضح فيها صورة مضاعفة الأجر هو أن الصوم يورث الحكمة بحسب ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ( الصوم يورث الحكمة و الحكمة تورث المعرفة و المعرفة تورث اليقين فاذا استيقن العبد لا يبالى كيف أصبح بعسرٍ أم بيسر ) و الحصول على الحكمة كنتيجة لمضاعفة الأجر منسجم مع تعبير القرآن بوصفه للحكمة أنها خيرٌ كثيرٌ قال تعالى : ((يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ )) البقرة : 269
واذا انتقل الإنسان إلى الحالة التي لايبالي فيها كيف أصبح بعسرٍ أم بيسر فهو الخير الذي ما بعده خير ؛ لأنه أسلم أمورَه كلَّها لله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء ، فلا اعتراض على ماكان أو يكون و لاحسرةً على ما فات وما سيفوتنا إدراكه ، فلا يفوتنا إدراك هذا الخير الكثير قبل أن تنتهي فترة الضيافة الإلهية .