23 ديسمبر، 2024 11:47 ص

شهادة شخصية ثالثة عن مصرع الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”

شهادة شخصية ثالثة عن مصرع الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”

“الملازم أول أحمد بهجت إبراهيم” يفنـّد نظرية المتفجرات
تمــهـيــــــــــد
في حديثنا المسهب مع “الملازم أول الطيار منذر سليمان عزت” -الشاهد الأهم- عن حادث سقوط طائرة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”، أعلمني بمشاركة صديقنا العزيز “الملازم أول أحمد بَهجَت إبراهيم” -خبير المتفجرات لدى صنف الهندسة العسكرية للجيش العراقي- في التحقيق مع الهيئتين التحقيقيتين العسكرية والقضائية بصفته “معلـّم متفجرات” في “مدرسة الهندسة العسكرية” في “معسكر الرشيد”، فعزمنا على التحدث معه في جلسة خاصة عن حقائق محددة قد تُخفى ولا تُعلَن على الملأ.
لماذا كـُلـِّفَ “أحمد بهجت” بالتحقيق؟؟
هاتفته لأقطع موعداً، وفـَضَّلَ أن يكون اللقاء في مسكنه المطل على “شارع فلسطين” مساء (السبت-30/نيسان/آبريل/1966) بصحبة صديقنا “الملازم المظلي عصمت صابر عمر”… فأسهبنا في الحديث:-
·       أنـا:- كيف تم تكليفك للتحقيق في هذا الحادث؟
·       أحمد بهجت:- أنا المعلـّم الأقدم في مجالات الألغام والمتفجرات والقنابل الموقوتة او غير المتفجّرة ومختصّ في ما يسمّى بـ”مصائد المغفـّلين” لدى “مدرسة الهندسة العسكرية”، وقد إشتركتُ بدورة تدريبية لمدة (6) أشهر في الولايات المتحدة الأمريكية عام (1963).
وقبل أن نعلم بحادث الطائرة فقد بُلِّغتُ هاتفياً بدخول جميع الجيش والقوات المسلحة بالإنذار “درجة-ج”، لذلك أسرعتُ إلى المدرسة بسيارتي الشخصية فجر (14/نيسان) حتى كلـّفني السيد آمر المدرسة في الصباح الباكر بالتحرك نحو “البصرة” فوراً لأحضر في موقع سقوط طائرة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” قرب قرية “النشوة” بأقصى سرعة ممكنة.مشاهدات في موقع الحدث
·       أنـا:- ماذا شاهدتَ لدى بلوغك مكان الحادث؟
·       أحمد بهجت:- لما إنطلقتُ صباح ذلك اليوم من “بغداد” بسيارة “جيب” عسكرية مصطحباً “نائبَي ضابط” أعتمد عليهما، فقد وصلتُ موقع الحادث بعد الظهر، فلم أجد شيئاً سوى حطام الهليكوبتر الذي أحاط به فصيل من الجنود بإمرة “نائب ضابط”، كانت مهمّتهم منع تقرّب أي شخص نحو الحطام لأي سبب كان ريثما ننهي مهمتنا وننتقي العيّنات… أما جثامين الصرعى فقد أسرعوا في نقلها منتصف اليوم ذاته إلى “البصرة” بموكب من سيارات الإسعاف خشية تعرضها للحر وأشعة الشمس.
·       أنـا:- هل يمكن أن تنوّرنا بالبعض من تفاصيل عملكم؟
·       أحمد بهجت:- نعم، فقد كان “النقيب الركن عبدالستار المعيني” -العضو في التحقيق الرسمي- ما زال مرابطاً في موقع الحادث حيث باشرنا بجمع عيّنات بأحجام صغيرة من جميع الأجزاء الرئيسة لحُطام الهليكوبتر (المحرّك، البدن الخارجي والداخلي، المروحة الرئيسة، مروحة الموازنة، مقصورة القيادة، مقاعد الجلوس، الأرضية، الإطارات، خزان البنزين، الأجهزة اللاسلكية، معدات الملاحة، مصابيح الإنارة والإشارة، زجاج النوافذ، الأجزاء المطاطية والبلاستيك) وحمّلناها بسيارتنا العسكرية عائدين إلى “بغداد”، والتي بلغناها ليلاً لأجد السيد آمر المدرسة وضابط من مديرية الإستخبارات العسكرية في إنتظارنا، فأودعنا العيّنات في “خزانة محكمة” يحتويها مختبر المدرسة مشدّدين الحراسة عليه، فيما كان معظم ضباط المدرسة بإنتظاري في حديقة “بهو الضباط” ليستمعوا إلى مشاهداتي وما حلّ بالسيد رئيس الجمهورية ورفاقه وطائرتهم.في المخـتبــر
·        الملازم عصمت صابر:- وهل مختبركم في المدرسة بالكفاءة الكافية في مجالات التحليل؟؟·       أحمد بهجت:- طبعاً في غاية الكفاءة، ولا يفوقه مختبر بكل الجيش في تحليل المتفجّرات، لإمتلاكه مايكروسكوبات دقيقة وأجهزة مختصة في هذا الشأن، ومعدات كفؤة لتحليل المواد المعدنية وغير المعدنية (الفلزات واللافلزات) تحت إمرة ضابط إحتياط على الملاك الدائم خريج كلية العلوم، يعاونه ضباط صف متطوعون ومتخصصون، إلى جانب ضباط إحتياط (مجندون) من خريجي كليات العلوم والتكنولوجيا المنسّبين لصنف الهندسة العسكرية.
·       عصمت:- وكيف عملتم للتيقـّن من دور المتفجرات في الحادث من عدمه؟؟
·       أحمد بهجت:- قسّمنا منتسبي المختبر على شكل مجموعات صبيحة (الأحد-1/مايس/مايو)، وأشرفتُ شخصياً على تحليلاتهم لتلك العيّنات، فلم يثبت لدينا -باليقين- أن (لا متفجرات لعب دوراً في هذا الحادث)، إنما سقطت طائرة الهليكوبتر لسبب آخر لا وجود للمتفجرات فيه.
·       أنـا:- وهل وجدتـّم ذلك كافياً وأنهيتم مهمّتكم؟؟
·       أحمد بهجت:- بالنسبة لي فقد كنتُ واثقاً من النتيجة التي توصلنا إليها في مختبر مدرستنا… إلاّ أن السيد آمر المدرسة إرتأى أن نقطع أيّ شكّ -قد يُثار- باليقين التام، فأمرني بنقل مجاميع من العيّنات ذاتها إلى “مختبر المعهد الكيميائي” التابع لوزارة الصناعة… فإضافة لإرتباطنا مع هذا المختبر بتعاون وثيق لكونه أرقى مستوىً وأعظم تضلـّعاً في مجالات المعادن وغير المعادن وعموم السوائل وتفاعلات جميع المواد، فإنهم ربما سيهتمّون بالتحليل أكثر منا كون وزيرهم “المهندس مصطفى عبدالله” قد صُرِعَ في الحادث نفسه، فضلاً عن قطع دابر الأقاويل التي قد تـُثار جراء ((إنفراد)) الجانب العسكري في هذا الشأن الذي تدور حوله الإشاعات.·       عصمت:- بالمناسبة… كيف تفحصون عيّنات من حطام يعود لشيء إنفلق وتناثر وإنتهى؟؟
·       أحمد بهجت:- هل أنت من الفرع العلمي أو الأدبي؟؟
·       عصمت:- لا علمي ولا أدبي، بل خريج ثانوية التجارة… الأخ “صبحي” من الفرع العلمي… ولكن لماذا السؤال؟؟
·       أحمد بهجت:- لأن الموضوع علميّ ومعقـّد للغاية ويرتبط بتفاصيل مواد وتفاعلات سأحاول تبسيطها.
فكل مادة متفجرة من أمثال (تي.أن.تي، جلكنايت، والبارود الأسود أو الأبيض) وسواها ما هي إلاّ مجموعة من عناصر فلزية ولافلزية أساسها (الكاربون، البوتاسيوم، الكبريت، الكحول الأثيلي، حوامض النتريك والكبريتيك… وإلخ) ومواد أخرى مثل (نيترو كليسرين، ونيترو سيليلوز) إمتزج بعضها بالبعض الآخر وتمخّضت إثر تفاعلها مادة متفجرة معيّنة.
أما في المختبر، فحالما نتوصل أثناء تفحّصنا عيّنة ما إلى وجود مادة أو أكثر من تلك المكونات الأساس من عدمه، وما إذا كانت قد تفاعلت مع أي جزء من أي شيء، عندئذٍ نتوقف في ما نشتبه به فنبحث أكثر فأكثر ونتعمّق في التحليل كي نتوصل إلى حقيقة محددة.
·       عصمت:- حسناً… ولكن هناك من يزعم أن كمية من الرمل، أو ربما السكر قد فُرّغَت في خزان بنزين الهليكوبتر… فهل وضعتم ذلك نصب ناظريكم عند العمل؟؟؟
·       أحمد بهجت:- بالطبع، فهذا الإحتمال كان وارداً، وقد جلبنا عينات لأجزاء من خزان البنزين ولم نستحصل شيئاً من هذا القبيل.
·       عصمت:- كيف تحققتم من ذلك؟؟
·       أحمد بهجت:- مكونات الرمل بأنواعه معروفة لدينا (سيليكا، أوكسيد الحديد، والكرانيت)، وكذلك السكر -بإختلاف ألوانه- أساسه نباتات معيّنة ويحتوي على (الكربوهيدرات والكالسيوم) إذْ لا يمكن تواجدها في مكونات جسد الطائرة ومحركها وبنزينها… ولما لم نجد شيئاً من تلك المواد فقد إستبعدنا هذا الإحتمال. 
·       أنـا:- حسناً، واضح للغاية… وماذا عن “مختبر المعهد الكيميائي” لوزارة الصناعة، هل توصّل إلى نتيجة مغايرة؟؟
·       أحمد بهجت:- مطلقاً، فبعد يومين من البحث الدقيق أكّد مدير ذلك المختبر في تقرير خاص رفعه إلى عميد المعهد الكيميائي أنه لم يتوصل -بشكل مطلق- إلى حقيقة وجود أي نوع من المتفجرات في عيّنات أجزاء الطائرة المنكوبة، والذي بدوره سلـّمَ لي كتاباً رسمياً أرفِقـَت به تفاصيل التحليلات والإختبارات لكل جزء من الأجزاء.
وبعد ذلك رفع آمر مدرستنا كتاباً (سرياً وشخصياً) بهذا الخصوص إلى رؤساء هيئات التحقيق المتشكّلة حول الحادث وإلى مراجع عليا أخرى، وقد سلـّمتـُه باليد إلى المعنيّين، محتوياً في إستنتاجاته حقيقتين رئيستين:-
أولاً- لم يثبت -بعد إجراء جملة من التحليلات الدقيقة- وجود أية مواد تخريبية من قنابل موقوتة أو متفجّرات في حطام الطائرة.ثانياً. لم يُعثَر بين حطام الطائرة على أي أثر مادي يدلّ على وجود أي مُفَرقَع تسبّب في حصول إنفجار مُدَبَّر. 
ملـخّـص الـكــلام
·       أنـا:- ملخّص الكلام في الختام، أن الطائرة لم تنفجر لدى تحليقها في الجو بفعل تأثير خارجي مدبّر.·       أحمد بهجت:- بالضبط… إنما سقطت لسوء قـَدَر من كان فيها، وإرتطمت بالأرض وتفجّرت بفعل الصدمة التي أحدثت حريقاً جراء إنفلاق خزان البنزين عالي الأوكتين، وكل من يزعم عكس ذلك فهو ضرب من الخيال.تشبّثي بالأخ “أحمد بهجت”
قد يستغرب القارئ العزيز من عودتي ثانية للحديث مع الصديق العزيز الأخ “أحمد بهجت إبراهيم” -أطال الله في عمره- لأعود معه إلى موضوعة المتفجرات، وقتما كنتُ أعدّ مسودة كتابي الموسوم (الرئيس عبدالسلام محمد عارف.. كما رأيتـُه)، وقتما حضر -مشكوراً- بمجلس العزاء المقام على روح والدتي الطيبة في حديقة مسكني، وذلك مساء (الأحد-7/أيلول/سبتمبر/1997) -أي بعد إنقضاء ما يزيد على (31) سنة على حادث الهليكوبتر- فما كان من الأخ “أحمد بهجت” سوى الإصرار -أمام جمع من الأقرباء والأصدقاء- على ما تحدّث به عام (1966)، مؤكداً  أنه لم يُعثر على أية مادة متفجَّرة في حينه بعد تحليل دقيق للعيّنات لدى مختبرَين ذوا إختصاص بهذا الشأن.