21 ديسمبر، 2024 7:52 ص

شكرا للمجذوب الذي لقنني درسا في الفضيلة !

شكرا للمجذوب الذي لقنني درسا في الفضيلة !

اليوم وقبيل صلاة الظهر أصبت بـ داء العُجب لأمر ما كنت قد قمت به ضحى فخلت نفسي لوهلة ولفرط جهلي بأنني “طرزان أو عنترة بن شداد “،وما هي الا دقائق معدودة على تسلل لعنة العُجب المقيتة الى النفس الأمارة بالسوء على حين غرة من النفس اللوامة، وإذا بـ”مجذوب”معروف يسكن واحدة من محلات بغداد التراثية العريقة يقف أمامي وجها لوجه بملامح متجهمة سائلا إياي بحدة وباللهجة الدارجة سؤالا لم يسألنيه أحد من قبل ، وأخال من بعد كذلك ونصه ( يا هو أحسن ، أني لو أنت ؟!) بمعنى ولمن يصعب عليهم فهم اللهجة العراقية العامية (أيهما الافضل ،أنا أم أنت ؟) فأجبته تواضعا ومن دون أن أكلف نفسي عناء هضم الرد والتفكير فيه مليا قبل النطق به “طبعا أنت الأحسن !” فرد على الفور بكل ثقة وبصيغة الجزم ” إي آني أحسن” بمعنى ” = نعم أنا الأفضل ” ، هنا قلت ” شكرا يا رب لقد وصلت الرسالة ” ، هذه الرسالة العاجلة غير الآجلة التي جعلتني أقر وأعترف بلساني وأمام الجميع ممن كانوا ينصتون الى حديثنا وإن لم يشاركوا فيه ، والإقرار كما هو معلوم سيد الأدلة بأن – المعتوه – هو أفضل مني إذ أن ما استنبطته من مجمل هذا الحوار القصير ،وما استشفيته من هذا الموقف المفاجىء الغريب هو الرد السريع على الشعور المريب الذي انتابني وما كان ينبغي لي أن أقع في شراك العُجب ،ولا أن أسقط في فخاخه ولو للحظة واحدة ، فهذا العُجب المقيت الذي لم يستمر أكثر من 10 دقائق قد تحطم تماما ، وإنهار كليا على لسان أشعث ،أغبر ، مدفوع عن الأبواب ،أخاله والله أعلم ممن يندرج في مجمل من قال فيهم النبي ﷺ ، لو أقسم على الله لأبره ، ولاسيما وأن هذا الشخص كان في غاية الوسامة والذكاء والشجاعة وهو سليل عائلة كريمة معروفة في بغداد قبل 35 عاما خلت حتى أصيب بـ” الجذب” كما يسميه الصوفية، أو بـ ” العته الحادث غير المطبق ” كما يطلق عليه رجال القانون ، وذلك أثناء معركة حامية الوطيس على الجبهة أثناء الخدمة العسكرية، ليتحول الرجل من حال الى حال لا يميز بين الخير والشر ، الا أنه لا يشكل خطرا على المجتمع” ، وفقا لتعريفات – المعتوه – قانونا بخلاف المجنون المطبق ، والابله ، والاحمق ، والغبي ، والسفيه ، أما وفقا للاحكام الشرعية وبحسب الموسوعة الفقهية فإن – العته – هو نقصان العقل من غير جنون ولا دهش ، حيث يختلط كلام المعتوه ليشبه بعضه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين ، وقد رفعت عن المعتوه التكاليف وحكمه حكم الصبي غير المميز ” ، والمجذوب لغة هو الشيء المحول عن موضعه، أما المتصوفة فيعرفونه بأنه”الشخص الذي اصطفاه الحق لنفسه ففاز بجميع المقامات والمراتب بلا كلفة المكاسب والمتاعب” على حد وصفهم ، وهو رأي ابن عطاء الله السكندري ،الذي اعتبر المجذوب أفضل من السالك من وجهة نظره طبعا ، وبرغم أنني لست صوفيا بالمعنى الدقيق والحرفي للمصطلح إلا أنني والحق أقول لكم أعشق التصوف” النقي ، العملي ، العلمي ، الصادق ، الحقيقي” وأعني به تصوف الحسن البصري ، والجنيد البغدادي، ومعروف الكرخي ، والسري سقطي ، وزين العابدين ، والغزالي ، والجيلاني وأمثالهم ، بعيدا كل البعد عن التصوف النظري الغنوصي الفلسفي البدعي حيث نظريات الحلول والتناسخ ووحدة الوجود ونحوها من الأباطيل والتخاريف والهرطقات .
وعودا على بدء أقول لقد نطق الرجل بلسان الحق حين باغتني بسؤاله ،وأرغمني على المقارنة بيني وبينه على رؤوس الاشهاد من حيث الأفضلية وبما سحق كل كبرياء يعتمل بداخلي ،وكل عجب يجيش في صدري ، إذ لم تبق اجابتي العفوية على سؤاله بأنه الافضل وتأكيده بحزم الواثقين على أنه كذلك وبأنه ” بالفعل هو الأفضل ” أي أثر للعجب الذي تبخر وكأنه ماكان ولم يكن ، وكيف لايكون هذا الشخص هو الافضل وقد رُفعَ عنه القلم بما قد يضمن له الجنة من غير تكاليف ، فيما لم يرفع عني أنا العبد الفقير ، في عالم تسوده الفتن والكروب والحروب والمحن ، والله يقلب قلوب العباد كيف يشاء ولن يأمن أحد مكر الله تعالى قط ، ولن يأمن مخلوق ثبات قلبه ، واستقرار حاله ، وحسن خاتمته من عدمها إلا برحمة منه سبحانه جل في علاه ،وبقطرات من بحر جوده تملأ الأرض ريًّا، أو بنظرة من عين رضاه تجعل الكافر إذا يشاء وليًّا.
لقد علمني المجذوب ، المعتوه ، سمه ما شئت فالعبرة وعلى قول علماء الاصول بالمضامين لا بالعناوين ،وبالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني ، أقول لقد علمني درسا بليغا في الفضيلة والاخلاق الحميدة مفاده بأن ” العجب بالنفس لا يليق على الاطلاق بمن أوله نُطفة مَذرة، وآخره جيفة قذرة،وبين ذلك يحمل في بطنه العَذرة، فضلا على أن العجب لايليق البتة بمخلوق ضعيف تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة ، وحسب عواصف الواقع المعاش وكدماته معلما ومهذبا ومربيا ” أودعناكم أغاتي