طفلة عراقية جميلة – أظنها من النازحين- لم يتعد عمرها الـ 11 عاما ،تحمل فوق رأسها 15 شدة – شدة خبز منزلي، وليس شدة من الأخضرالامريكي ( = 10 الاف دولار) فلاتتوهمنَّ أبدا ، فالأولى قدر الجياع، والأيتام ،والأرامل ،والمساكين، والعاطلين، والمحرومين في أرض – النفط – ولا عزاء للفقراء في بلاد كانت تسمى ماضيا ببلاد ما بين النهرين، قبل تسميتها ببلاد ما بين الذهبين (النفط ، والغاز) وكل من عليها ماخلا النزر اليسير من -بلية-القوم،ولا أقول – عليتهم – يردد رائعة شاعر النيل حافظ ابراهيم ، متسائلا :
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا …ونحن نمشي على أرض من الذهب ؟!
شدة خبز،أسوة بالحلوى،والبالونات الملونة،التي يبيعها فوق الأرصفة المغبرة، وعند المقتربات ، وفي الاشارات الضوئية ،وعلى قارعة الطرق من لم يشبع يوما من خبز، لا في حرب ، ولا في سلم، ولا في حصار، يبيع أمنياته النهارية ، وأحلامه الليلية المجهضة لسواه مَن لم يذق طعم الحلوى المغلفة النظيفة بعيدا عن نظيراتها الملوثة والمكشوفة التي يتناولها على الدوام بعد أسراب الذباب وليس قبلها ..يبيعها لسواه من لم يتسل يوما ببالون أنيق ملون كبقية الأطفال ، وكل قطعة منها معدودة ومحسوبة عليه تماما كأنفاسه وحركاته وسكناته وأي نقص فيها لا يقابله ثمن مواز لها = ليلة ليلاء ليست كسواها من الليالي حيث الضرب والتعنيف والاتهام بالسرقة والاختلاس والتحايل والتبذير والاسراف والطمع ، ولربما خرج علينا (ذئب بشري) صاحب كرش تقدمي ،وخلفية رجعية ، مطالبا بأعلى صوته بإحالة الطفل المسكين الى السجن، بعد مروره بمحكمة الأحداث ، ولربما الى النزاهة ، ليظهر بعد هنيهة ( قرش بشري ) آخر مطالبا بقطع يده ، لأنه وإن كان طفلا دون سن البلوغ ، إلا أنه لم يحفظ الأمانة وآثر الخيانة، بينما عائدات المنافذ والجمارك والوقفيات والمقامات والشدات فوق مستوى الشبهات لم يعد يعبأ ولا يأبه لسرقتها – عيني عينك ياتاجر – لا الأول المتهتك العلماني ، ولا مدعي الزهد والورع وغرة الصلاة الباذنجانية ، الثاني ، لأنها صارت حكرا وفقا للعرف الفاسد على الساسة ورجال الأعمال والتجار إضافة الى المتلاعبين بالمال العام ، والمطففين بالمكيال ، والمخسرين للوزن ، والمتلاعبين بالميزان على خطى المستهترين والمحتكرين والجشعين والفجار، لتجول الطفلة وسط هذه الـ ديستوبيا – القاتمة وهي تحلم بـ – يوتوبيا- لاوجود لها إلا في مخيلتها – بخبزها المحمول على رأسها – وهي نصف نائمة من شدة الارهاق – بين الأسواق والمساجد لحين بيعه يوميا وشعارها “خبزتنا تكفينا …من ضيم الدنيا تسترنا …من ألم الجوع تنقذنا ..من ذل المسألة تحمينا …من طمع البشر،وأعين الحساد ..تقينا !” .
سنتان مضت وأنا أرقب عن كثب مرور هذه الطفلة نظيفة الملبس ، بهية الطلعة ، جميلة المحيا ، حسنة الخلق ، وكانها نسيم البحر ، وعبق الورد ، وفي ذات الطرق التي أمر بها ذهابا وإيابا بين الأزقة، والحارات الشعبية ،طفلة تمشي بحشمة ، تبيع بوقار ، تشكر بأدب كل من يشتري منها ولاتفتأ تكرر عبارتها المعهودة على استحياء ( شكرا ..عمو ) إلا أن هذه الوردة اليانعة ، والزهرة النضرة ما لبثت وبمرور الأيام أن ذبلت شيئا فشيئا، وأخذت تفقد ابتسامتها، وصارت أشد بؤسا، وأكثر اكتئابا، وأجلى شحوبا، ومعالم الحزن بادية على ملامحها ، ربما لأنها بدأت تشعر بالسآمة من المهنة الشاقة الإجبارية اليومية المرهقة التي أرغمت عليها رغما عن أنفها في بلاد خسرت 1000 مليار دولار خلال عشرين عاما من دون أن يعلم بوجهتها أحد بإستثناء المتورطين بتهريبها أو سرقتها أو إهدارها ..ولربما لأنها باتت تشعر بالحزن والأسى ولاسيما حين يقع بصرها وترى بأم عينيها جموع التلاميذ وهم في طريقهم الى مدارسهم ، كتبهم المدرسية بين أيديهم ..حقائبهم على ظهورهم ..آباؤهم أو أمهاتهم بمعيتهم .. فيما تجد نفسها وحيدة بلا أب يترفق بها ويعمل بدلا منها ليطعمها ويسقيها،ولا أم تحنو عليها لتربت على كتفها ، وتمسح رأسها أسوة بدموعها اذا ما جار الزمان عليها، لتجد نفسها مرغمة على مساعدة أهلها حاملة “جبلا من الخبز” فوق رأسها الصغير المائل جانبا من ثقله، بينما يكاد عنقها أن يُدَق ، وكتفها أن ينخلع من عظم الحمل قياسا بحجمها الضئيل ،وجسدها النحيل!
اليوم وأنا أسير بمعية أحد الأصدقاء الأعزاء بعد صلاة الظهر ، وإذا بنا نلمح تلكم الياسمينة العراقية الوضاءة كالمعتاد واذا بها لم تبع من الـ 15 شدة شيئا قط …كانت وبينما نحن نراقبها خلسة وكلما ذهبت الى أحدهم قائلة له بصوت خفيض (خبز …خبز …عمو ..تريد خبز ؟!) واذا به يشيح بوجهه عنها وكأنها ذبابة ، بعوضة ، حشرة صغيرة لاتستحق الالتفات، ليقول لها ومن دون النظر اليها ولو بطرف عينيه كبرا وخيلاء ، وهو منشغل بصحيفته الورقية المليئة بالشائعات والأكاذيب فضلا على تمجيد كل من لايستحق التمجيد ،أو بهاتفه النقال ” لا لا …شكرا ” فقرر صاحبي أن يتدخل عاجلا غير آجل ، ليدخل السرور على قلب هذه الطفلة التي كسر الكل خاطرها، لعله ينجح بجبره قبل فوات الأوان وقبل أن يتصدع كقشرة أرضية حطمها خسف، ودمرها زلزال ، وليريحها من هذا العناء اليومي المقيت ولساعات طويلة ، فالطفلة لن تبيع حصتها من الخبز كله الا بحلول المغرب، وأحيانا مع صلاة العشاء ، خبزها أبيض ناصع وكبير وليس كبعض الخبز الذي يبيعه أقرانها هنا أو هناك …وليشيع صاحبي – وبحسب ما أسرني به بعد ذلك – مفاهيم التكافل الاجتماعي وتشجيع العادات الجميلة ، وترسيخ الأعراف الحسنة التي تلاشت أو تكاد بين الناس في زمن الشح المطاع ، والهوى المتبع ، والدنيا المؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، قائلا لي هلم بنا اليها لأن وطأة الحمل الثقيل الذي تنوء بحمله والذي لا يتناسب وطفلة بعمرها، بطولها ، بحجمها، يحز في قلبي ، ويفت في كبدي ، فدار بينهما حوار إنساني لذت من جرائه بالصمت المطبق :
– بكم الكيس الواحد ؟
* بـ 1000 دينار ..عمو ؟
– كم كيس خبز عندك ..بابا ؟
* 15 كيس …عمو !
– ولكن هذا مجموع الأكياس الذي تحميلنها على رأسك يوميا !
* تمام ” لأن اليوم ما بعت ولا كيس ..عمو !” .
– ليش ..باباتي ؟!
* والله عمو ما أعرف ليش ..يوم أبيع الخبز بسرعة ..ويوم أظل أفتر طول النهار على رجلي ، ومحد يشتري مني !!
– بابا راح نشتري الخبز كله حتى ترجعين للبيت بسرعة ، وترتاحين (وبالفعل أخرج الرجل من جيبه 15 الف دينار واشترى منها الخبز كله ” .
* شكرا ..عمو .
-ولكن أريد منك توزيع الخبز لهذا اليوم ثوابا لوجه الله تعالى ..وقولي لمن تعطينه كيسا “اليوم الخبز ثواب ..بمناسبة شهر رجب !” .
* تمام ..حاضر ..شكرا ..عمو .
ذهبت الطفلة فهمس الصديق العزيز في أذني قائلا “لو كنا في شهر شعبان ، لقلنا للطفلة قولي لمن تعطينه كيسا، هذا بمناسبة شعبان ..ولو كنا في رمضان، لقلنا قولي هذا الخبز بمناسبة شهر رمضان ..وفي ربيع الأول ،بمناسبة ذكرى المولد النبوي ، وفي العيدين ، بمناسبة عيد الفطر ، أو الأضحى ” وفي محرم بمناسبة الشهر المحرم ، وهكذا دواليك ، والغاية من ذلك كله هو لدفع الحرج عن الشخص المراد إكرامه ثوابا ، ولإحياء روح التكافل بين الناس لتكون بمثابة سنة راسخة ، وعادة حسنة بينهم ..ولكي نساعد الطفلة المسكينة ، وربما اليتيمة أيضا لتعود الى بيتها الصغير المستأجر، والى حضن أمها الدافئ بدلا من – شلعان القلب- في البرد القارس وبدلا من البؤس والجهد اليومي الذي لايتناسب وجسدها الهزيل ، وسنها الصغير ، صباح مساء لعل الله تعالى يتجاوز عنا ويخفف من أحمالنا وأعبائنا وأثقالنا في الدنيا قبل الآخرة … ماهو رأيك ..صديقي ؟!
قلت وأنا أستحضر جانبا من رواية (بائعة الخبز) للروائي الفرنسي ،كزافييه دومونتبان ، الصادرة عام 1884 “إجابتي على سؤالك المهم ، وموقفك المُلهم ،وأهدافك الانسانية النبيلة ، ونواياك الصادقة ، ولا أزكيك على الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ، لن يكون قولا عابرا سرعان ما يضيع بين زحمة المجاملات ، وصِدام الآراء ، وضجيج الأقوال من دون الأفعال ..وإنما بمقال !” اودعناكم اغاتي