23 ديسمبر، 2024 12:27 ص

شكرا سائق الكوستر ومساعده ..لقد تفوقتم على جل النَظَريين والمُنَظِرين !!

شكرا سائق الكوستر ومساعده ..لقد تفوقتم على جل النَظَريين والمُنَظِرين !!

عمل خيري وإنساني جميل ورقيق وبسيط وغير مكلف بالمرة إبتكره أحد سواق الكوستر بين ساحة الطيران والباب المعظم ، فأذهل القاصي والداني !
أجمل ما في الموضوع هو أن الكوستر – قديم ومجرقع – ما يثبت لي وفي كل يوم تشرق فيه شمس ، ويبزغ فيه قمر، بأن الفقراء والكادحين أكرم طبعا ،وأرق أفئدة ،من الأغنياء ..ولا أعمم …والكرم عندي ليس بتقديم المشوي والمحشي والبذخ والاسراف والتبذير والمجاملة والنفاق الاجتماعي في العزائم والولائم التي يدعى اليها أصحاب الكروش والقروش والأثرياء والشيوخ والوجهاء ليرمى نصفها إن لم يكن أكثر في القمامة …فيما يُدفَع عنها الجياع والمحرومون حتى في أزمنة الغلاء والبلاء والوباء !
الكرم الحق هو ،أن” يكون عندك الف دينار وأنت صاحب حاجة متعفف فتقسمه الى نصفين”وهذا ما يفعله كثير من الفقراء فيما بينهم، ورب درهم سبق مائة الف درهم …!
وما أن ركبت في الكوستر حتى قدم لي مساعد السائق – السكن – قدحا من الماء البارد أخرجه من بوكس موضوع الى جانب السائق وقد إمتلأ بقطع الثلج وأقداح الماء عن بكرة أبيه ،وهكذا كان مساعد السائق وقبل أن يتسلم الأجرة من أي راكب ، يباغته بقدح من الماء البارد في قيظ الصيف اللاهب والابتسامة البريئة تعلو محياه الجميل !
لقد أحصيت عديد الدعوات التي حصل عليها السائق ومساعده فتجاوزت 30 دعوة بالرحمة لوالديهما سواء أكانا حيين أم ميتين ،خلال المسافة التي ركبت فيها معهم وكانت من منتصف الطريق فحسب ،ترى كم من دعوة طيبة حصلا عليها طوال الطريق، وكم من دعوات مباركات مماثلة قد حازاها في الذهاب والإياب على نفس الخط ، طيلة ساعات اليوم ؟!
كان الرجل فرحا للغاية وكلما دعا له أحد الركاب بالخير ،زاد همة وحركة ونشاطا ،حتى أنه بالغ في فضله وكرمه وصار يوزع الماء عند الاشارات الضوئية على المارة ،بين سائقي التك تك ،والستوتات ، بين العتالين وعلى ركاب وسائقي المركبات الأخرى !
حقا وصدقا إن فعل الخير لايحتاج الى كثير من -الكلام والتنظير والثرثرة – حسبك أن تقوم به بنفسك لتكون قدوة حسنة لغيرك بما يصلح للتقليد والاقتباس والاستنساخ !
وكلي ثقة بأن عشرة كوسترات واذا ما إعتمد أصحابها عادة توزيع أقداح الماء البارد بين الركاب على نفس الخط “ساحة الطيران – الباب المعظم” فإن كل سواق الكوسترات الآخرين في الخط المذكور سيحذون حذوهم ويقلدونهم قريبا جدا ، هذا ثواب لوالدته ..وذاك ثواب لوالده ، وهذا لإبنه ..وذاك لشقيقه ، وهلم جرا …فما بالكم ببقية الخطوط في طول بغداد وعرضها ؟!
لاشيء أعظم من التكافل الاجتماعي، وفعل الخيرات،وكثرة الصدقات،والكلمة الطيبة والابتسامة الجميلة، والتواضع ، وخفض الجناح ، والسلام على من عرفت ومن لم تعرف مشفوعة بالقلب الرحيم الطيب ،مطلقا !
الأجمل أن مساعد السائق كان يجمع بقايا الأقداح الفارغة ويضعها في كيس مخصص لها، ثم قام برميه في حاوية النفايات !
العملية برمتها لن تكلفك أكثر أربعة الآف دينار( علبة أقداح ماء تحوي 60 قدحا = 2000 دينار + نصف قالب ثلج بـ 2000 دينار) .
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فيمكنني القول بأن طبيعة المكان الذي تختمر فيه فكرة -مقال- هي التي ستحدد مدى مصداقيته وتأثيره في المتلقي ..مقال يختمر في ذهن صاحبه بفندق خمس نجوم لن يتناول معاناة الفقراء والكادحين والعاطلين مطلقا الا فيما ندر، مقال كهذا يولد من رحم الفنادق والمتنزهات والمطاعم الفاخرة والمولات والكافيتريات والملاهي والبارات،سيتغنى بالحياة والدنيا والسفر والمال والمتاع والنساء والجمال والموسيقى والطرب وصرعات الموضة ونحوها !!
المقالات الإصلاحية والتغييرية الصادقة والجذرية لاتختمر ولا تكتب ذهنيا قبل سطرها ورقيا الا من فوق الآرصفة المغبرة، في المقاهي الشعبية القديمة ، في أزقة ، وأحياء ، وحارات ، وعشوائيات ، ومستشفيات ، ومقابر، ومساطر، ومخيمات ومساجد الفقراء والنازحين والمشردين والبؤساء ..كم العصف الذهني ،والاعصار الوجداني التي ستجتاح الكاتب في تلكم الأماكن ستكون بمثابة أقوى شاحن لملكة وموهبة الكتابة لديه ، وكلها ستبدأ من المأساة لتنتهي اليها ولن تغرد خارج سرب الاصلاح ،ونبذ الطبقية،ونصرة الكادحين والمظلومين ،وكسوة العراة ، وسقي الظمأى ،والحض على إطعام الجائعين، وكفالة الايتام ، ومساعدة المتعففين ، والمعاقين والمسنين ، وإيواء النازحين المشردين ، إطلاقا،بعيدا عن صخب الحزبيين،وأكاذيب السياسيين،وألاعيب الحاقدين،ومؤتمراتهم الصحفية الوهمية الفارغة !
جل كتاب العالم وشعرائه وقصاصه وروائييه ومنظريه ومفكريه الكبار كانوا هكذا …الإصلاح والكتابة عن الثورة المجتمعية والاصلاح والتغيير الشامل عندهم تبدأ من الشارع،وليس من الغرف المعطرة والمكيفة ،لأن الدعة والاستكانة والأبراج العاجية المكيفة تصنع أفكارا، وتخلق إبداعا ، وتُلهم تنظيرا ولكن بإتجاه واحد عادة ما يتغني بالحياة والدنيا والكماليات والتحسينات والجماليات عامة، وبنبرة طبقية نخبوية ، وبطريقة استعلائية إستفزازية، بخلاف الكتابة من نبض الشارع ، ومن رحم وواقع الجماهير ..عرق الكادحين مشفوعا بدموعهم وغبار أياديهم وملابسهم الرثة وحدها تكفي لكتابة ..مقال ..في جولة واحدة بينهم فحسب !
شخصيا لا أثق كثيرا بمؤلفات وتنظيرات وأدبيات مفكرين وفلاسفة وكتاب ولو كانوا إسلاميين أو ليبراليين أو يساريين يخشون من لسع البعوض ، وضربة الشمس ، والبرد القارس ، ويأنفون من مصافحة الكادحين، ويشعرون بالانزعاج من أماكن وجودهم ، ويشعرون بالغثيان من رائحة عرقهم ، من أولئك الذين لايحضرون أفراح المعدمين ولا أتراحهم كبرا وإستعلاء ، فيما تراهم في مقدمة الصفوف لتعزية الأثرياء ،ومباركة الوجهاء ، ولو كانوا من أشر الخلق طغيانا،وأكثرهم سفها وفسادا وإفسادا وظلما، وأبعدهم عن دين الله سبحانه ، والذريعة الجاهزة المسلفنة لتبرير صنيعهم اللئيم على الدوام هو “الحرص على جلب المصالح ،وتحقيق المنافع “،كذبتم وحسئتم ، بل قولوا وبالفم الملآن أن شعارنا هو ما قالته العوام قديما في أمثالهم الشعبية” اذا حاجتك يم الجلب …قل له حجي جليب !!”، فأي هراء هذا الذي تتذرعون به ، وأي بلاء، إنه عذر أقبح من ذنب !
وأقول ماذا سيكتب المنظرون والمفكرون النخبويون الطبقيون – التكيفييون – العاجيون كهؤلاء من أدبيات يأملون بفعلها تغيير الواقع المأساوي للبلاد والعباد ، ويتمنون لقاءها تحقق الاصلاح المجتمعي، وكيف سيخرج ما كتبوا بما لايجاوز ألسنتهم ليصل الى قلوب جماهيرهم ، وما يخرج من القلب يصل الى القلب مباشرة ومن دون إستئذان ، الا أن ما يخرج من البرج والقصر العاجي، فلن يصل الى شسع نعل أحدهم …تفكير هؤلاء وأمثالهم معوج تماما وهو بحاجة وقبل غيره الى نقد بناء والى تغيير وثورة وإصلاح شامل ! اودعناكم اغاتي