23 ديسمبر، 2024 2:49 م

شكرا أمية.. وصلت الرسالة

شكرا أمية.. وصلت الرسالة

كنت صبيا لا يتجاوز عمري العشر سنوات عندما صار في متناولي كتاب يتحدث عن قصة الاسطورة الفرنسية ( جان دارك ) تلك الفتاة التي اختارها الرجال ان تكون قائدة لهم تتقدم جحافلهم وتقتحم بهم كالاسد الهصور معاقل العدو وتحصيناته لتعود في كل مرة وقد وطأت بقدميها حلبة الموت ثم عادت وهي تحمل لواء الظفر واضعة جنودها امام دليل يتحدث عن صراع الانسان مع العدم ويكشف عن معادلة يتقاسم طرفاها الشجاعة والاقدام من جهة والحياة والشرف من جهة اخرى .. اذكر انني كنت شغوفا بقراءة ذلك الكتاب الى الدرجة التي وضعته في اليوم التالي بين كتبي المدرسية وذهبت كالعادة لاستانف يوما اخر من ايام الدراسة ولم احسب انني ساجد نفسي بعد دقائق وانا اخوض جدالا ساخنا مع معلم اللغة العربية الذي علت ملامحه علائم الدهشة وهو يرى الصبي ذا العشر سنوات يهتم بقراءة مثل هذا الكتاب لكنه اراد ان يغطي على تلك الدهشة فسارع يتقمص دور من يشكل على الطالب الصغير خروجه على وظيفته الاساسية فيلجأ الى قراءة كتاب خارجي بدلا من ان يكرس جهده كما ينبغي لقراءة المواد الدراسية المقررة وعندما استمع الى رد سريع يقرن بين الشجاعة والدراسة ويوضح بعجالة اقرب الى البديهة اننا كمواطنين ربما سنجد انفسنا في ظرف ما وقد احتجنا الى امراة شجاعة كجان دارك اكثر من حاجتنا الى علماء مثل نيوتن او اديسن او اينشتاين اجاب بلغة بدت مغرقة بالاجترار والتقليدية : (وهل تتعلم الشجاعة من امراة ؟ ) .. اراد معلم اللغة العربية ان يمسك بزمام الحوار فذهب الى توظيف مافي ذاكرة الماضي من تراكمات فحولية تبيح للرجل ان يحتكر صفات ايجابية كثيرة بينها الشجاعة والبطولة والاقدام وكل ظنه انه سيضع محاوره في ورطة وسيدفعه للاستسلام امام ذلك المبدأ التراثي ويرغمه على الاستسلام لاحادية الرجل وعدم خلطها باي خيار انثوي سواء كان يتعلق بامراة فرنسية او غيرها لكن المحاور ابى كما يبدو ان يستسلم او يقر بتلك الحجة غير المقنعة فقال بلغة تغلب عليها المباشرة والبساطة ( رب امراة تحسبها ضعيفة لكنها اشجع لو علمت من رجال كثيرين ).. قبل ايام كنت استعرض كالعادة في روزنامة الاخبار اليومية سلسلة الاحداث والوقائع القادمة من جهة الشمال عندما شعرت بيد الزمن وهي تاخذ بيدي لتعيدني طالبا صغيرا يدس بين كتبه المدرسية رواية الاسطورة الفرنسية ( جان دارك ) .. حدث ذلك عندما لفت انتباهي خبر يتحدث عن تصدي امراة عراقية اسمها ( امية ناجي جبارة ) لقطعان من الارهابيين ( الدواعش ) ارادوا ان يقتحموا منطقتها وان يطلقوا لغرائزهم النجسة العنان فيقتلوا ويهدموا ويغتصبوا وينهبوا فلم يكن من تلك المرأة الا ان توقض في روحها ارادة المقاتل وان تحفز فيها انحيازها للفضيلة فاختارت الموت شهيدة على الحياة ذليلة وتلك هي قصة جميع الاحرار والشهداء على مدى التاريخ يمكننا اختزالها بهذا الوصف الموجز لموقف الشهيدة امية ناجي جبارة مسافة قصيرة بين ان يكون الانسان او لايكون منهم من يراها كما هي قصيرة يمكنه اجتيازها بلحظات خاطفة ومنهم من يراها طويلة اطول من ( درب الصد مارد ) فيخور ويرتعش ويصعق حتى يظهر منه ما يعيبه وما يلحق به وبمن ياتي بعده من ولده واحفاده العار والشنار والذل والخسار ولانحسب ان مثل هذا الوصف يقصر على الرجال ولا يشمل النساء او يصدق عليهن ولا ينطبق عليهم ، صحيح ان القاعدة الموروثة تشير الى ان للحرب قوانينها وللوغى احكامها التي قد لاتبدو متطابقة لحسابات فسلجية مع هذا الجنس او ذاك الا ان الاستثناء هنا يستحق المزيد من الوقوف والاعجاب والتامل خاصة في ظل الواقع المتازم والحاضر المتفجر الذي يمر به بلد تتقا ذفه العواصف كالعراق تبرز فيه امراة ترسل بصمت ووقار وبسالة لاتعادلها بسالة الرجال رسالة تقول فيها تلك هي التضحية لا شيء يخيف انها الانتقالة السريعة من السقوط الى النهوض ومن الشك الى اليقين ومن الارض الى السماء شكرا امية وصلت الرسالة ..