إذا صح خبر اعتزال السيد مقتدى الصدر للحياة السياسية، ومع تقديرنا البالغ لأسباب هذا الاعتزال ودوافعه المعلنة، فسوف يكون هذا أفضل هدية يقدمها للعراقيين بعيد الفطر المبارك، أعاده الله على الشعب العراقي الصبور وقد اعتزلت البقية الباقية من المعممين المتطفلين على الحكم والسياسة، وحلفائهم غير المعممين.
فلا مهرب هنا من الاعتراف بأن المتصدرين لقيادة الدولة العراقية الحالية من رجال الدين فاشلون بامتياز، لا يؤتمنون، غدارون، وغير صادقين، ومعادون للشعوب وللديمقراطية والحداثة والعدالة وسلطة القانون.
والسبب الأهم في ذلك هو أنهم فارغون، لا علم لهم ولا فهم سوى ما ألقاه في قلوبهم وعقولهم رجالُ دين، مثلـُهم، مُغلقون لا يُطيقون أن يعرفوا فكرا سوى فكرهم، ولا مفاهيم سوى المفاهيم التي اكتسبوها في المساجد أو الحسينيات أو الكتاتيب أو فيما يسمونه مدارس وجامعات دينية هواؤها فاسد، وماؤها فاسد، وحبرها أسود بلون القار. متعصبون لما بين أيديهم وحدها، لا يفترضون، ولو لوهلة، أن تفسيراتهم للدين قد لا تكون هي الأكثر صوابا وتمثيلا لحقيقة الدين ورسالته ومراميه، برغم أن أغلب تلك التفسيرات والتخريجات والتأويلات يجري تطويعه ليتفق مع نوازعهم المذهبية، عن قصد أو عن جهالة وعصبية. فكثيرا ما أضافوا وحذفوا واختلقوا ما يوائم الطقوس والمفاهيم والمعتقدات التي وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم من مئات السنين.
ونحن في العراق، على الأقل، لم نعرف، إلا قليلا ونادرا، رجالَ دين متنورين يتطورون مع الزمن، ويجددون أفكارهم ومعتقداتهم تبعا لما يستجد من حقائق ومكتشفات علمية وتاريخية تنسف بعض ما ورثوه.
كما لا نعرف منهم إلا قليلين أيضا ملكوا قدرا من الشجاعة والإرادة فتمردوا على القواقع التي حبسهم فيها معلموهم الأولون، وخرجوا إلى فضاء العلم الرحيب، واقتحموا ميادين علوم أخرى لا علاقة لها بالدين، يبدعون فيها، ويأكلون خبزهم من حلالها، مثل الطب والهندسة والاقتصاد والسياسة والقوانين، ولم يمتهنوا تجارة الدين وابتزاز خلق الله.
ولأن الذين يتصدرون قيادة دولتنا هذه الأيام هم رجالُ دين معممون أو غير معممين فقد أصبح من الجائز القول إنهم، لقلة خبراتهم في الإدارة ولهوسٍ مَرَضيٍ فضيعٍ بالمال والسلطة وترف الدنيا صنعوا لدولتنا هذا الفشل الذريع والخلل المريع الذي أصاب وزاراتها ومؤسساتها المدنية والعسكرية، بلا جدال.
وهم أيضا سبب هذا الفصام العظيم الذي أصاب روح الإلفة والتواد والتراحم والتعايش بين أبناء الوطن الواحد، وهم سبب الاحتباس الحالي العصي على الحل والانعتاق. فهم متمسكون بالخراب، ومستريحون للفساد، ومنشرحون لاضطراب الأمن وقلة الخدمات وتعثر الصلاح.
ولو أضفنا إليهم طبقة السياسيين الانتهازيين المتحالفين معهم، لصح لنا أن نعلن أن هؤلاء وأؤلئك هم المشكلة، ولا يمكن أن يصبحوا، في يوم من الأيام، أداوت حلها وانفراجها.
هل قرأتم آخر تصريح لكاكا فؤاد معصوم عن جواز الولاية الثالثة للمالكي؟، وهل تذكرتم ما فعله مام جلال بتواقيع سحب الثقة من أبي إسراء؟ وهل تراقبون هذه الأيام ما يفعله صالح المطلق وأبو ريشة ومشعان الجبوري في حضرة السيد رئيس الوزراء؟
وما اختلال الأمن وتعثر الخدمات وانتشار الفساد إلا مظاهر ناتجة عن صراعات هؤلاء أو تحالفاتهم، سواء بسواء. وبالمراقبة المتأنية لوتيرة العنف يتأكد لنا أنها تزيد أو تقل، وأحيانا تتوقف، تبعا لسخونة العداوة أو برودتها بين رؤساء أحزابهم أو مليشياتهم، دون ريب.
إنهم طفيليون. ركبوا على ظهورنا إما بإرادة المحتل أو بقوة نفوذ دولة قريبة أو بعيدة، أو استلاما لحصةِ طائفة ٍأو قومية أو عشيرة أو مليشيا مسلحة، وليس لعلمٍ وخبرة وكفاءة ونزاهة، مثلما يحدث في أغلب دول العالم الثالث المتخلفة، ولا نقول في دول الغرب والشرق المتحضرة التي تحترم نفسها وأهلها في أبسط الأحوال.
وما يزيد مرارة الحال أن شعبنا يعرفهم جيدا، ويعرف أصولهم وفصولهم، ويعرف ماذا كانوا يفعلون في الخارج، وكيف تمكنوا من كسب رضى السادة، أمركيين وإيرانيين وسوريين وسعوديين وأتراكا وبريطانيين وإسرائيليين، وكيف قفزوا إلى الوزارات أو النيابات أو السفارات، وماذا فعلوا في السنوات العشر الماضية، وماذا سيفعلونه في السنوات العشر المقبلة.
ولو دعوناهم إلى التعقل والعودة إلى جادة الصواب لكانت دعواتنا هواءً في شبك. فهم يدركون، بعمق ودراية ويقين، أن ما يطالبهم به العراقيون من احتكام لعقل وضمير وعدالة وسلطة قانون لا معنى لها سوى واحد لاغير، وهو خرابُ بيوتهم، وسجنهُم، ومصادرة أموالهم وما اختلسوه من عقارات وقصور ومزارع وحقول، واستعادة مُهرَّباتهم، وهي كبيرة وكثيرة، من أوربا وأمريكا والأردن والإمارات ومصر ولبنان وإيران.
ومن يأمل في أنهم قد يملكون شجاعة السيد مقتدى، يوما من الأيام، فيعتزلون طواعية وفجأة ودون مقدمات، ويتخلون عن مناصبهم ورواتبهم وماكسبهم بسهولة، فهو واهم أو به مَسٌ من جنون.
فهم باقون، مع سبق الإصرار والترصد، ولن ينزلوا عن ظهورنا حتى لو فعلوا بالمتظاهرين العراقيين ما فعله بشار الأسد بأشقائنا السوريين حين هدم سوريا على رؤوسهم، وجعلها خرابة موحشة تسكنها البوم وتنعق فيها الغربان وتتناسل فيها الأفاعي. هذا إذا ما حدثت المعجزة ذات يوم وثار العراقيون كما فعل السوريون ومن بعدهم أشقاؤنا المصريون الأشاوس.
وإزاء هذا المأزق المحكم ليس أمام الشعب العراقي سوى خيارين، إما رفضُه، أو القبولُ به، والصمت عنه، والاعتياد عليه، رغم مراراته ومهازله ومخازيه. أما رفضُه بمقالة أو قصيدة أو بيان صحفي أو تظاهرة يتيمة هنا أو هناك، فلا ينفع.
وهنا يأتي السؤال: هل لدينا في العراق حركة شبابية متحضرة وجرئية وشجاعة وعنيدة كما في مصر؟ وهل لدينا فنانون وكتاب وصحفيون وإعلاميون مناضلون يقارعون الظلم والفساد والتسلط كما في مصر؟ وهل لدينا، كما في مصر أيضا، عشراتُ الملايين من دعاة الحرية وأحباب الديمقراطية وعشاق الدولة المدنية لم تُلوَثْ عقولهُم وأرواحهم بعصبية قومية أو طائفية أو عشائرية أو مناطقية، فتمُزق شملهَم وتنصُرَ عليهم سلطةً جبانة مُهزهزة مُهلهلة مُبعثرة لا يجرؤ أشجع فرسانها على اجتياز أحد أسوار المنطقة الخضراء بأمتار؟
لم يصبر المصريون على عبث الإخوان المسلمين سوى عام، وصَبرنا، نحن العراقيين، عشرَ سنوات، وقد نصبر مثلها، نتذرع بحرِّ الصيف مرة، وببردِ الشتاء مرة، حتى نملأ صدر إمامنا الخالد علي بن أبي طالب قيحا ومرارة. شكرا أخي مقتدى، ورحم الله من زار وخفف، والله المستعان.