23 ديسمبر، 2024 6:50 ص

شقي زيقك ياعشتار .. لقد مات بطل الطوفان

شقي زيقك ياعشتار .. لقد مات بطل الطوفان

تلقيت قبل قليل ( الساعة الثانية عشر ظهرا ) من يوم الأحد ( 20/5/2018م ) خبر وفاة عالم الاثار والتاريخ القديم الأستاذ الدكتور فاضل عبدالواحد ، بعد معاناة مع المرض استمر اكثر من ثمان عشر سنة، واهمال واضح من الجهات الحكومية والعلمية والثقافية، ولاسيما بعد الاحتلال سنة 2003 م، بعد ان صال وجال اكثر من أربعين سنة في الأوساط الثقافية ، منقباً وحافراً في تاريخ بلاد الرافدين ، وهو الذي كان يجيد اللغة الاكدية بطلاقة وقارئ جيد للألواح العراقية القديمة، وأفضل من بحث في حادثة الطوفان … خرج العديد من طلبة الماجستير والدكتوراه من العراقيين والعرب، الذين لهم مكانة مهمة اليوم في الاثار والتاريخ، منهم: عالم اللغات القديمة والاثار نائل حنون….

عرفته وانا طالب بكالوريوس وهو أستاذ ذو قامة سامقة ، وبعد تعيني في جامعة القادسية سنة 1991م ، وأثناء إعداد أطروحتي للدكتوراه في كلية الاداب جامعة بغداد، اشتركت معه ربما في سنة ( 1997م ) في لجنة لكتابة تاريخ العراق من سقوط بابل 539 ق م الى انتشار الإسلام سنة 622 م ، وكان يترأس اللجنة الدكتور نزار الحديثي عميد كلية الاداب وعضوية أسماء مهمة منهم: الدكتور واثق الصالحي والدكتور عبدالإله فاضل والدكتور منذر عبدالكريم البكر من جامعة البصرة … وغيرهم، ولقد وجدت جميع الحضور يكنون له الاحترام وكان يجلس الى الجانب الأيسر من رئيس اللجنة الدكتور الحديثي، وكان الجميع ينظرون اليه في حل الإشكاليات العلمية، وهذا يدل على علو كعبه العلمي، واثناء المداولات والمناقشات العلمية في اللجنة طرحت آراء واستنتاجات علمية مهمة جدا، لكنها مع شديد الأسف لم تر النور… !!!

الدكتور فاضل هو فاضل في كل شيء بأخلاقه وحسن تصرفه، يمتاز بالهدوء وعذوبة الكلام وكل ما تحمله الشخصية البصرية من طعم شط العرب وعادات أهل أبو الخصيب وطيبة أهل البصرة، كان حلو المعشر رقيق الروح، يتسم بأعصاب باردة، وسنحة جميلة مفرحة ووجه يحمل بين ملامحه الكثير من الهموم والاحزان الى جانب ابتسامة لم تكتمل بعد، لم يظهر منها سواء طرفها يجعلك في حيرة من امرك ، كأنه تابلت سومري أغلقت عليك قراءة ملامح خطوط حروفه!!!…

الاستاذ الدكتور فاضل عبد الواحد من مواليد البصرة سنة 1935م، بكالوريوس من كلية الاداب – جامعة بغداد 1957م ، ماجستير من جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأميركية سنة 1960 م كذلك الدكتوراه سنة 1964م تخصص السومريات ، شغل عدة مسؤوليات منها رئاسته لقسم الاثار كلية الاداب -جامعة بغداد . ومن كتبه :” عشتار ومأساة تموز ” و” الطوفان “و ” عادات وتقاليد الشعوب القديمة ” مشترك مع الدكتور عامر سليمان و”من الواح سومر الى التوراة ” و “. سومر فكر ومعتقدات ” و” تاريخ العراق القديم ” مشترك مع الدكتور طه باقر ، ولديه اسهامات في مشاريع علمية كثيرة منها موسوعة “حضارة العراق ” التي اصدرتها في الثمانينات وزارة الثقافة وكتاب “العراق في التاريخ ” . وله اكتشافات علمية كثيرة من خلال بحوثه ودراساته عن تاريخ العراق القديم وتأثيره على الشعوب القديمة ، ومنها اليهود ومقارنة ذلك مع الأساطير السومرية والبابلية وقدم شواهد حية على تأصيل التاريخ وعراقة وقدم حضارة بلاد الرافدين في العالم …له آراء واستنتاجات مهمة أهمها من حوار مع صفاء ذياب، جاء فيه:

– تكمن المشكلة السومرية: أن الاساتذة الباحثين من الاجانب لم يتفقوا على منطقة معينة جاء منها السومريون، ولكن، هم يتفقون على ان ظهور الحضارة السومرية في سومر جاءت من دون مقدمات، وتعد قفزة ليس لها ماض في العراق، وهي دلالة على ان السومريين جاؤوا من خارج العراق.

– لكنهم يعتقدون ان هناك فجوة حضارية بين الشمال والجنوب، ويفكرون في ان هذا الانقطاع هو الذي جاء خلاله السومريون من الخارج، ولم يكن هناك أي انقطاع، ولكن بدايات الحضارة كانت في الشمال، ونضجها كان في الجنوب، وليس هناك ما يسمى بفجوة حضارية.

– الزقورة بنيت بسبب الإشكال القائم، وهو عمق المياه الجوفية والفيضانات الكثيرة، وللتخلص من هذهِ المشكلة، ولاسيما وأن الزقورات أماكن عبادتهم، أي معابدهم، وهي منطقة مقدسة وينبغي أن ترفع أعلى من منسوب المياه، وإلا ضاعت كل هذهِ المقدسات في أي فيضان قادم، ولا ننسى أن بناء الزقورة كان من اللبن وهناك قشرة من الآجر، وهذهِ المواد عرضة للدمار.

– مع احترامي للأستاذ كمال الصليبي، لكن، وجِّه نقد كثير لكتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب). ومصادرنا السومرية والبابلية واضحة، اذ تذكر ان الطوفان حدث في جنوب العراق في مدينة شروباك في العراق، وابطاله شخصيات عراقية، سومرية كانت أم بابلية قديمة، فمثلاً (زيوسدرا) بطل الطوفان في القصة السومرية، اسمه سومري، ومعناه (صاحب الحياة الطويلة). للدلالة على حصوله على الخلود، و(أوتنا بشتم) بمعنى (وجد الحياة)، نابشتم بمعنى (النفس)، والنفس هي الحياة، وأتراخاسس، اسمه بابلي بمعنى (المتناهي في الحكمة)، (أترا) بمعنى (المتناهي)، و(خاسس) بمعنى (الحكمة). فهؤلاء كلهم يحملون أسماء سومرية وبابلية، والمدن التي حدث فيها الطوفان سومرية وبابلية، وليس لي شأن بقول الصليبي وفرضياته عن أسماء المدن، وهذهِ مسألة أخرى وبعيدة عن الواقع.

– في فترة العبيد، ومن خلال الطبقة الغرينية، أفترض أن هناك حضارة في الجنوب، في العبيد أو في غيرها. ثم جاء الطوفان فترك هذهِ الطبقة الغرينية. ثم بعد ذلك عادت الحياة مرة ثانية، بعد أن انحسرت مياه الطوفان.

– بدأت التقديرات عن متى حدث الطوفان؟ ان رواية الطوفان قد وردت في ملحمة جلجامش، وبدأت التساؤلات: لماذا وُضِع هذا اللوح في الملحمة ووظفَ في ملحمة جلجامش. ويعتقد أن السبب هو قرب الطوفان من جلجامش، أو قرب جلجامش من الطوفان، وان اللوح الحادي عشر ليس من أصل ملحمة جلجامش، لكننا نعرف ان الملحمة ككل تتكون من أربع قصص تدور كلها حول شخصية جلجامش، وظِّفت بطريقة بارعة جداً ورائعة وأدخلت في جسد هذهِ الملحمة التي تبدأ في الوركاء، وتنتهي بعودة جلجامش إليها… فنحن نعرف هذهِ القصص وبنية الملحمة، وقصة الطوفان وجدت لغاية، وهي إعطاء الملحمة بعداً اوسع.

– لا نستطيع ان نحمل الأدب الملحمي ما لا يتحمله، ونتسأل هنا: هل ذهب جلجامش الى غابة الأرز، او لم يذهب؟ نعم، هو ذهب في مخيلة هذا الأديب الذي كتب الملحمة.

– التوراة فيها أخبار تاريخية عن الطوفان وعن الملوك الآشوريين، قسم منها واقع تاريخي وقسم مجافٍ للحقيقة، وأنا أنصح كل شخص يبحث في مسائل التاريخ من خلال التوراة أن لا يكون أحادي المبدأ.

– لدينا نصوص ذات طابع مسرحي، فمن خلال الزواج المقدس والمراثي وقصة الخليفة البابلية، التي هي ذات جذور سومرية، وهذهِ نصوص تعطي هذا الانطباع، ولكن هل هناك مسرح معين؟ هذا ما لا اعرفه.

– الجانب الفكري موجود كالفكرة مسرحية، وهناك من الدلائل ما يشير الى وجودها، ولدينا بعض الاشارات في قصة الخليفة البابلية (إينوما إيليش) بأن هذا الاحتفال كان يستمر أحد عشر يوماً وربما كان يمثل بعض فصولها، ولاسيما فصل انتصار مردوخ على تيامة إلهة الشر، وتتويج مجمع الآلهة له وإعطاؤه خمسين إسماً من أسمائها.

– سوء العلاقة في النهاية بين جلجامش وعشتار ، تعكس انه لا يريد ان تكون عشتار حليلة له بعدما اتهمها أنها تنتقل بين عشاقها، وهذهِ مسألة ليست غريبة على طبع الرجل الشرقي، الذي يريد أن تكون زوجته وحبيبته خاصة بهِ.

– ان تموز يمثل البداوة لأنه راعٍ، وانكي – أمدو فلاح، وهو يمثل المدنية، والحوار الذي جرى بينهما هو حوار بين البداوة والتحضر.

– إن تاريخنا متكامل تماماً، ولا يستطيع احد خلق فجوة للدخول من خلالها، إن تراث الرافدين متواصل ومتراصٍ بطريقة تامة، وهو تاريخ يبدأ منذ بدء البشرية وحتى هذهِ اللحظة بتنامٍ واضح وتصاعد حضاري، هذا أمر متفق عليه لدى جميع الباحثين، ولا توجد فترات مظلمة أو غير واضحة في هذا التاريخ.