22 ديسمبر، 2024 11:42 م

كتب وبحوث ومقالات كثيرة تناولت ( شقاوات بغداد ) في ذلك الزمان ، والإمتدادات التاريخية لهذه الظاهرة على مر العصور ، وتسميتها ومن أين جاءت ، ونظيراتها في البلدان الاخرى كالفتوة والقبضايا وغيرهما ..
فهذا الموضوع كان ولا يزال يستهوي الباحثين والكتاب للدخول في عالمه ، وكشف اسراره …
وفي زيارة سريعة الى الزميل الكاتب الصحفي سعد محسن في نقابة الصحفيين خرجت منها بهدية جميلة هي كتابه ( شقاوات بغداد ) ، في طبعته الثانية التي صدرت عن دار سطور…
وما لفت انتباهي هو إعادة طبع الكتاب مرة أخرى في مدة قصيرة ، وربما سيطبع طبعات لاحقة ، وهذا مؤشر واضح على قيمة المطبوع ، ليس في نسبة التوزيع وكمية الطبع العالية فقط ، وإنما في مضمونه التاريخي والاجتماعي ، الذي يعكس توجها ومزاجا ( نخبويا وشعبيا ) يتمثل في الاهتمام بتاريخ الوطن ، بكل ما يحمل من حالات ، ودلالات ، والحنين الى الماضي الجميل ، والقيم والعادات والتقاليد الجميلة التي ضعف بعضها ، وانتهى الاعم الاغلب منها ، مما جعل مدننا ، وفي الصدارة منها العاصمة بغداد تفقد خصوصيتها التي عرفت بها ، وغاب عنها لونها المتميز …
لقد إشتهرت بغداد ( بشقاواتها ) ، وتوزعت ( سلطاتهم ) على مناطق معينة فيها كالفضل وباب الشيخ وغيرهما ، وبسط (سلطانهم ) عليها ، واصبحت أشبه ( بالممالك ) الخاصة بهم ، ولا يستطيع أحد أن يتجاوزعلى ( سيادتها ) ، أو ينال من سكانها ، ولهم ( زيهم ) الخاص ، و( مشيتهم ) التي تمتاز بالتبختر والغرور، وقيمهم وأعرافهم وتقاليدهم الخاصة ..
والشقاوة ظاهرة لها دلالاتها الاجتماعية وحضورها المؤثر يومذاك ، وتعكس مرحلة مهمة من تاريخ العراق تشير الى غياب ، أو ضعف سلطة القانون في مجتمع ( كان الجوع والتخلف هو السمة السائدة فيه ) ، وبسط النفوذ من خلال القوة ، بما فيها ( الجسمية ) والجسارة والشجاعة ( ليكونوا هم ( الحكومة ) والسلطة ، لان المؤسسات الحكومية لم تكن مكتملة يومذاك ..وبالتالي انعكس ذلك على تقويم تلك تلك الشخصيات ، فبينما عدهم البعض قادة اجرام ومجرمين رأى البعض الاخر أنهم ( أشخاص ظهروا نتيجة تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والاضطهاد والقسوة التي يمارسها المحتل ضد ابناء الشعب مما دفع البعض على شق عصا الطاعة والنظر الى الحكومة المحتلة بعين الازدراء ) على حد ما يرى المؤلف ..
وتناول الباحث رأي علماء الاجتماع في بروز ( ظاهرة الشقاولات ) وتتبع بجهد وصبر الباحث امتدادها التاريخي ، بدءا من ملحمة كلكامش وشريعة حمورابي التي فرضت عقوبات صارمة على قطاع الطرق والشقاوات ، ومرورا بالصعاليك في العصر الجاهلي ، وابرزهم عروة بن الورد الذي يلقب ( بابي الصعاليك ) ، ودعوته ( للصعلكة ) ( لإقامة نوع من العدالة الاجتماعية ) وصعودا الى ( الفتوة والشطار) والعيارين والى ما إنتهت اليه الظاهرة ..
ولم يقصر المؤلف جهده على البحث في االمصادر والمطبوعات المختلفة فقط ، وإنما التقى أيضا بمن عاصروا تلك الحقبة من تاريخ العراق ، أو سمعوا عن هؤلاء شيئا من أبائهم أو أجدادهم ..
واذا كان للشقاوات العراقية ( نظراء ) في بلدان اخرى لكن الباحث يرى أن تسمية ( الشقاوة ) بعيدة عن تسمية ( البلطجة ) المعروفة ، لان الثانية ( أوغاد ولصوص وقتلة وأصحاب سوابق ، لا يضبطهم أي وازع اخلاقي ) بينما تمتاز ( شقاوة ) العراق بالانتصار للضعيف ، والوقوف مع الفقير ضد الظالم ، ومن يغتصب حقهما من الاغنياء والاقوياء ، وأخذ ما يسمى ( بالخاوات ) منهم واعطائها لمن يحتاجها ، والوقوف مع ابناء المنطقة ، والدفاع عنها ضد من يتجاوز عليها ، وهذا ما لم يكن في البلطجة …
وسرد الكتاب في ( صفحاته المائتي والثمانين ) قصصا ومصطلحات عراقية وراويات عن شقاوات بغداد وعدد من المحافظات ، وعلاقات الشقاوات بالسياسة والسياسيين ، ومنهم نوري سعيد بالذات ، ومواقف كثيرة له في هذا الموضوع وصفها الباحث ( بالحكيمة ) ..وهذا ما اعطى للكتاب قيمته وتميزه في هذا المجال …
كتاب ممتع ، جدير بالقراءة ، بذل فيه الباحث جهدا متميزا ، جعل منه يشكل اضافة نوعية الى المكتبة العراقية ، لما تضمنه من خفايا واسرارتتعلق بهذه الظاهرة وابطال قصصها وشخوصها المعروفين .