22 ديسمبر، 2024 6:56 م

” شفياهي” و شبيهي في قصيدة لميعة عباس عمارة
” شفياهي” وشبيهي
في قصيدة لميعة عباس عمارة
جهدت حتى أقنعها بتصحيح معنى كلمة “شفياهي” في قصيدة المرحومة لميعة عباس عمارة، فذاك صعب عليها. قلت لها: يا أم زكي، صحيح أن كلمة “شفياهي” المندائية قريبة في اللفظ من كلمة “شبيهي” الذي قصدتيه، ولكنها لا تُعتمد لهذا المعنى، فاستغربت!

ووضحتُ أن كلمة “شفياهي” التي اعتمدتها عنوانا للقصيدة، هي كلمة مكروهة عند المندائيين لأنهم يقروننها بالشر. فالكلمة أصلا مركبة من كلمتين هما (شُبا+ آهي) كما في المندائية. الأولى تعني العدد (سبعة) والثانية تعني (أخوان) فيكون بجمعهما (الأخوان السبعة) وقد تحور اللفظ قليلا قياسا على ما في الآرامية. والقصد في التعبير يشير إلى الكواكب السبعة مصطلحا ومدلولا لها. وبما أن الصابئة المندائيين يعزون جانبا كبيرا من الشر على الأرض إلى تأثير الكواكب، وهم يلعنون ذلك منها، صاروا يقرنون كل شر بالإخوة السبعة (شُبا+ آهي: شفياهي). واستخدموا هذا المصطلح في نصوصهم ليشير لها إجمالا بدلا من تعديدها.

وكلمة (شفياهي) قائمة في مسامع لميعة منذ الصغر واختلط الأمر مع مفهوم الشبيه في الإيمان المندائي لقرب اللفظ، ولأنه موجود في معتقدها أيضا. أما كلمة (شبيهي) فهي في المندائية (دموثاي) وتقوم على كلمة (دموثا) بمعنى النظير والقرين. ونرى أن الكلمة العربية (دُمية) مأخوذة منها.

وبعد أن قدمتُ لها الأمثلة في النصوص، إقتنعت أم زكي، ولكنها قالت: كيف، وقد صارت عنوان القصيدة في ديوان (لو أنبأني العرّاف)؟ قلت: سيحين وقتٌ ونصوّب. وها قد حان.

أما مفهوم الشبيه، ولماذا كتبت فيه لميعة عباس عمارة، فهو مرتكز أساس في معتقد الصابئة المندائيين حيث يؤمنون أن هناك عالماً وسطاً بين عالم النور العلوي وعالم الأرض السفلي يسمونه (مشوني كُشطا) عالم العهد السَّني. وهو ربما يماثل عالم الذر عند المسلمين. وفي هذا العالم مثيل أثيري صنو وشبيه لكل ما على الأرض.

وعندهم أن النفس حينما حلت بجسد الإنسان وُعدت بأنها تعود حين يأين الأوان، وأن مثيلها/ شبيهها الذي ظل في (مشوني كُشطا) سيبقى يتوق وينتظرها. وبتحقق الوفاة تنطلق النفس من حبس الجسد، وبعد مسيرة التطهير من خطايا الأرض، ترتقي إلى عالم العهد السني. هناك تبحث عن نظيرها/ قرينها/ مثيلها/ شبيهها بلهفة الحبيب المفارق لتندمج معه، ويكونان واحدا. ويتوهج بعد الإندماج إنبعاث حياة جديدة تؤهل النفس للإرتقاء إلى عالم النور حيث المستقر الأبدي. وعلى هذا فنص الترحم عند الصابئة المندائيين، الذي يقابل سورة الفاتحة في القرآن الكريم، هو رجاء لأن يتحقق لنفس المتوفي (اندماجٌ وتوحدٌ، وإنبعاثُ حياة، ومغفرة ُالخطايا لنفس فلان بن فلانة، أو فلانة بنت فلانة). فالمندائي، ذكرا أو أنثى، يتسمى باسم أمه وليس باسم أبيه في الطقوس الدينية.

وقد أبدعت لميعة عباس عمارة في قصيدة (شبيهي) وقدمت صورة معبرة عن حنين النفس إلى أصلها ومنشئها كما في المفهوم المندائي. تصعد مرتدية لباس النور الأبيض المسمى (رستا)، ومكللة بإكليل آس لأن الآس ينير الطريق، وتحدّق بنجم القطب في الشمال فهو دليل بوابة النور وهو ثابت لا يتغير موقعه. وفي قراءة مضمون القصيدة ما يقدم المعنى كاملا، ناهيك عن جمال التعبير والحس الإيماني. وعساها نفس لميعة قد إمتزجت بشبيهها الذي ظل ينتظرها!

 

شبيهي*

 

أعودُ إليكَ شبيهي

وأنتَ تعودُ إليَّ

تُمازِجُني، تحتويني

وتفنى وتنحلُّ فيَّ

 

أُقبِّلُ وَجهَكَ

أدري، شِفاهُكَ من شَفَتَيَّ

 

مَرايا بغيرِ زُجاجٍ

أثـيـريّةٍ سرمديّــة

 

ضَفَرتُ لِشَعريَ إكليلَ آسٍ

وتاجَ ضياءِ

وَحدَّقتُ في نَجمَةِ القُطبِ

كُلَّ ليالي الشَّقـاءِ

أحِنُّ إلى موطنيَ الخالدِ النّورِ

عَبرَ السَّماءِ

إليكَ حنيني ـ شبيهي ـ

لعالمِ ذاكَ النَّـقاءِ

 

تُراكَ انتظرتَ “اللقاءَ المُرجَّى”

سنيناً طويله؟

وَحدَّقتَ عَبرَ الأسامي

وَعَبرَ الوجوه الجميله؟

تَمنَّيتني

إذ يُلاقي المحبُّونَ كُلٌّ خليله؟

 

أأنتَ الحبيبُ التَـوَهَّمتُ

في الناسِ ألقى بديله؟

 

ثيابيَ بيضاءُ،

ما مَسَّها الحقدُ

مِثلُ ثيابِكْ

وروحي حًمامةُ بَرٍّ تهيمُ

تهيمُ بِغابِكْ

 

خَلعتُ حِذاءَ المَتاعبِ عن قَدَميَّ

ببابِكْ،

فَعانِقْ بقايايَ

ألقِ بها وَهَجاً منْ شبابِكْ

 

* القصيدة كتبت عام 1977