7 أبريل، 2024 1:30 م
Search
Close this search box.

شــريط إحصائي

Facebook
Twitter
LinkedIn

وأنا في السادسة من عمري جلبني أبي إلى السوق ليشتري لي حقيبة قال إنها حقيبة مدرسية. عرض علي رحمه الله عدة حقائب في محلات مختلفة وسألني عن أيهما تعجبني. كلها كانت جميلة إلا أنني اخترت واحدة قد راقت لي. أمي كذلك اشترت لي أجمل الملابس المدرسية وكنت البسها في البيت قبل أن تفتح المدارس لفرحي الكبير وكأنه يوم عرس. لا استطيع وصف الفرحة التي انتابتني عندها وأنا استعد للمدرسة لاسيما وان أبي وأمي يعرّفان المدرسة لي بشكل مشوق جدا.

جلست في المرحلة الأولى من الدراسة الابتدائية وبدأت صفحة جديدة من الحياة. لم تكن المدرسة حلوة في كثير من الأحيان كما كان أبي يصورها لي وكذلك أمي. المسالة تحتاج إلى اهتمام وكد ومشقة ومثابرة وإلاّ سوف تكون في وضع لا تحسد عليه أمام أقرانك من الطلبة وقد تفقد سنة من عمرك بالرسوب في الصف عند أي إهمال.

أمي توقظيني من النوم مبكراً في صباح شتاء بارد لأذهب إلى المدرسة. أحمل أسفاري وامسك طريق المدرسة تاركا خلفي البيت الدافئ والفراش الناعم وحضن أمي وطيبة أبي. أحياناً كنت أمرض من البرد فأبقى فوق الرحلة لا أتحرك انتظر ببالغ الصبر جرس الدرس الأخير لانصرف إلى أمي التي تعد لي حساءً دافئا أدفئ به صدري العليل. وأبي الذي سيتسارع إليّ بالعلاج ولن يتركني فريسة المرض والهذيان وثم يوم جديد والحالة نفسها أحمل حقيبتي المثقلة بالكتب والدفاتر والقرطاس لأحضر الدروس في المدرسة.

إنتهت 12 عشرة سنة بحلوها ومرها وأنا أجدّ وأدرس، وكل هذه الصعاب تضمحل أمام أحلامي في مستقبل زاهر أؤمن لنفسي عملاً أرتزق منه وأكمل مشوار حياتي. ابتدأت هذه المرة المرحلة الجامعية وفي مدينة أخرى غير مدينتي. هذه المرة حياة جديدة لم أكن قد تعرفت عليها من قبل. حيث كانت أمي تحضّر لي الطعام وتغسل وتكوي الملابس، واليوم عليّ أن أعمل كل ذلك بنفسي. ليس هذا فحسب بل كنت قد تعودت أن أعيش متنعما بحنان أمي وبدفئ أحضان أبي وإخوتي من حولي. أمّا اليوم فعليّ أن أعيش مع أناس لم أعرفهم من قبل وكل واحد فيهم يحمل طبيعة خاصة ولا تلائم أي طبيعة منها تكويني. أعيش في بناية متعبة لا تحتوي على أية مقومات الحياة، عليك أن تنتظر في طابور طويل لتدخل المرافق الصحية ودورة المياه. فالحياة ليس كما كانت في بيتنا تعج بالرفاهية، حيث الحمامات النظيفة والفراش الدافئ والراحة التامة. هنا لا أتمكن من الاستحمام كما كنت في بيتنا، فالأمر يحتاج إلى الماء الحار والكهرباء وتدفئة الحمام، هذا فيما إذا جاء دوري في دخول الحمام. وبعده العودة إلى الغرفة سالكاً ممرا بارداً لتصل إلى الغرفة التي لست وحدك فيها. العودة إلى البيت نهاية كل أسبوع كان الأمل الوحيد الذي نعيش عليه، فالفرق بين الحياة في البيت تحت خيمة أبي وأجنحة أمي وهذه الحياة التي أعيشها هو كالفرق بين الجنة والنار.

كل هذا يهون فانا سأكون حاملاً لشهادة جامعية تؤهلني للعمل والارتقاء إلى مكانة تليق بي في المجتمع. درست وأنهيت الدراسة واستلمت الشهادة الجامعية وسارعت إلى البيت لأبشر أبي وأمي. ها هي قد أثمرت آهاتي وانتهت كل معاناتي، انتهت مرحلة الدراسة في حياتي بحلوها ومرها وما بقي إلاّ الخدمة العسكرية لأبدأ بعدها الحياة العملية والتي استعد لها منذ أن كان عمري ستة أعوام.

تم سوقي لأداء الخدمة العسكرية التي واضبت أن أكون ملتزما بها لأخرج قبل حين منها. سبعة عشر شهرا بالتمام والكمال وأنا في العراء تحت الشمس في حر صيف لاهب وتحت المطر ببرودة شتاء قارص. أترنح تحت حمل كبير حيث معاناة جندي متعب في معسكر ناءٍ مليء بالعقارب والثعابين والفئران التي تشاركنا حتى في مأكلنا ومشربنا وحتى في أسرتنا الرثة التي ننام عليها. كل هذا يهون فقد مضى الكثير ولم يبقى سوى أشهر وسأستلم كتاب تسريحي من الجيش لكون حرا طليقا وتفتح أمامي أبوب الحياة.

 

وقد ظفرت بعد الصبر الطويل امتد لأعوام طويلة وقد استلمت كتاب التسريح من الجيش. يوم عيد بالنسبة لي حيث نزعت الملابس العسكرية لأنخرط هذه المرة بالحياة المدنية وابدأها واقطف ثمار كل تلك السنين في ضل العوز والحرمان. ارتأيت أن ارتاح لبضعة أشهر وبعدها احمل أوراقي المزينة بشهادتي الجامعية لأتقدم إلى التعين في إحدى الدوائر الحكومية. كنت فخورا جدا وأنا أتوجه إلى مكتب حكومي لأقدم طلب التعين. وما أن أكملت المستمسكات المطلوبة قدمتها إلى موظف يجلس خلف طاولة ولا يتحدث إلاّ ما ندر ويحاول إفهام ما يريده بلغة الإشارة. ردّت المعاملة إليّ ولم يقبل طلبي دون زملائي الذين تم تمشية معاملاتهم ولا أدري ما السبب. سارعت بالسؤال وإذا به يقول لي اجلب لي (شـريط إحصائي).. ما هو الشريط الإحصائي يا ترى لم اسمع عنه من قبل حتى أخبرني أحد الزملاء بأنه يترتب عليّ مراجعة دائرة الإحصاء في مدينة كركوك وهم سيقومون بالواجب.

في اليوم التالي ذهبت مع صديق لي إلى هذه الدائرة قرب بهو بلدية كركوك. طلبت الشريط الإحصائي فقدمت لي استمارة وطلب مني إملائها. الاستمارة تقول الأتي:

تصحيح قومية

إني المواطن ……….. من القومية التركمانية. لقد تم تسجيل انتمائي القومي في سجلاتكم بالخطأ وان قوميتي هي العربية. لذا أرجو تصحيح قوميتي من التركمانية إلى العربية.

لم أصدق عيناي.. إنه أمر لا يصدق. تحدثت إلى الموظف في دائرة الإحصاء وقلت له بان قوميتي لم تسجل بالخطأ وأنا تركماني وكيف لي أن أتنكر لقومي؟ قال لي بالحرف الواحد.. إذن اذهب واطلب التعين من قومك وأبناء قوميتك.

شريط حقير وإستمارة أحقر من الذي أوجده كانت بمثابة صعقة كهربائية في كياني ووجداني والتي قلبت حياتي. عليّ الآن أن اختار بين العمل بشهادتي العلمية التي عانيت ما عانيت لأحصل عليها وبين التنكر لقوميتي ومسحها وضرب كل المبادئ والقيم التي تربيت عليها عرض الحائط. عليّ أن أختار بين وسيلة للعيش وبين محاربة الذات الذي يأبى أن يكون إلاّ أصيلاً. تركت هذه الدائرة وتمشيت إلى البيت وأنا أشاهد أمام عيني تعب كل تلك السنين وقد انقلبت كل أفكاري رأساً على عقب. كأنني أشاهد أمي التي توقظني من النوم لأذهب إلى المدرسة وأشاهد أبي وهو يشقى ليحصل على المال ويؤمن مصرفي تذكرت أبي قبل خمسة وعشرون عاما عندما اصطحبني إلى السوق ليشتري لي أول حقيبة مدرسية. تذكرت كل صغيرة وكبيرة واليوم الأول عندما جلست فيه على الرحلة المدرسية فرحا ومنطلقا للغاية. صورة أبي لا تفارقني وهو يقف في كراج السيارات يحجز لي المكان لأصعد الباص ولا يذهب ويبقى منتظراً حتى تتحرك السيارة عندما التحق مسافراً إلى الجامعة ومن ثم يذهب والحال الذي استمر لسنين طويلة في البرد وتحت المطر والحر وتحت الشمس.

وصلت البيت وخيبة الأمل تحيط بي من كل جانب فالإختيار صعب جداً. كيف أكون أنساناً آخر وكيف لي أن أغادر مبادئي. كيف أكون متلوناً وإنساناً مزيفاً وكيف لي إن أحترم نفسي بعد ذلك؟

خرجت في اليوم التالي إلى السوق لأجد لنفسي عملا ارتزق منه وارفع العبئ عن كاهل أبي. وجدت محلا صغيراً عملت فيه وأنا العن كل تلك السنين وحتى العن أحلامي التي حلمت بها وأنا ادرس واقرأ وأتحمل كل الصعاب. لعنت كل يوم خدمت فيه عسكريا مهانا لهذا الوطن الذي لم يقم لي الاعتبار. الوطن الذي خذلني وتنكر لوجودي ولم يعطني أي ثقــل. الوطن الذي حولني من خريج جامعي إلى إنسان يبحث عن العمل مع كل الفاشلين دراسياً والذين لم يتمكنوا من تكملة الدراسة. الوطن الذي جعلني أجالس في السوق العمال والكسبة وخريجي المرحلة الإبتدائية بعد عمر طويل من الدراسة والتعب وأن اركن شهادة البكالوريوس جانباً. هذا الوطن قلل من شأني ونكـّـس راياتي وغدر بي. ما فعله بي هذا الوطن لم تفعله أوطان الغربة بأبسط غريب.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب