9 أبريل، 2024 6:02 ص
Search
Close this search box.

شـجار في سـوق السـمك

Facebook
Twitter
LinkedIn

الكثير من شباب اليوم لايعرفون شيئاً عن ذروة الطفرة التجارية التي حققتها اليابان خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، فلقد غزت الراديوهات ومسجلات الكاسيت من علامات ناشينول وسانيو وهيتاشي وتوشيبا اسواق الدول العربية بلا استثناء ، وكذلك استطاعت المراوح الهوائية واجهزة تكييف الهواء اليابانية اثبات قوتها ومتانتها في العراق ودول الخليج الحارة ، فيما اكتسـحت الساعات اليابانية مثل سايكو وكاسيو واورينت سوق الساعات وازاحت ملكة صناعة الساعات (أي سويسـرا) نهائياً عن عرشها ، أما سيارات تويوتا وداتسون وميتسوبيشي فقد اجتاحت شوارع مدن وقرى الشرق الاوسط وافريقيا وصارت منافساً خطراً للسيارات الفرنسية والامريكية ، بل إن شاحنة تويوتا الصغيرة (طن واحد) اثبتت قدرتها الفائقة للسير على  الطرق الترابية والرملية مما جعلها الشاحنة الاولى المطلوبة للعمل في وسط افريقيا .

ظل العقيد معمر القذافي منذ منتصف السبعينيات يتدخل بصورة دائمية في شؤون تشاد الداخلية ، ويسند فريقاً من التشاديين بالمال والسلاح ضد فريق آخر ، وفي منتصف الثمانينات حدثت اشتباكات عنيفة بين الجيش الليبي والقوات التشادية ، حيث كان القذافي يزعم بأن الشريط الحدودي والمسمى (تيزي اوزو) ، والغني بالمنغنيز واليورانيوم هو من ضمن الاراضي الليبية ، وذلك بناء على اتفاقية قديمة مهملة وقعتها كل من ايطاليا (الدولة المحتلة لليبيا) وفرنسا (الدولة المحتلة لتشاد) عام 1935 . لقد كان القذافي يطمع بالاستيلاء على هذا الشريط الصحراوي الحدودي والذي تتجاوز مساحته الثمانون الف كيلومتر مربع ، فقام بكل غباء بارسال دباباته ومدرعاته الى داخل الاراضي التشادية ، وبما إن الطرق في المنطقة كانت غير معبدة ، فكثيراً ما كانت الاليات الليبية الثقيلة تغرس في الرمال . بالمقابل اتحدت عدة فصائل تشادية كانت متحاربة من قبل ، محاولين منع القذافي من اقتطاع هذا الجزء من تشاد .

كانت تشاد ومازالت دولة فقيرة لاتمتلك الكثير من المعدات الحربية ، فقامت بأستخدام شاحنات التويوتا الصغيرة في نقل مقاتليها ، والذين حملوا معهم صواريخ خفيفة مضادة للطائرات والدبابات ( اظن إن فرنسا ودول غربية آخرى زودتهم بها) ، حيث كانوا يطلقونها على الدبابات والمدرعات الليبية ويعطلونها ، ولأن الطائرات الليبية لاتستطيع متابعة حركة الشاحنات الصغيرة الخفيفة الحركة والمتنقلة بسرعة وسط رمال الصحراء من الجو ، فلقد حقق التشاديون انتصاراً غريباً ومذهلاً واسروا المئات من المقاتلين الليبين ، بل ودخلوا داخل الاراضي الليبية مستولين على بعض المراكز الحدودية الصحراوية ، وهذا مما اجبر القذافي وبضغط من المجتمع الدولي على الجلوس للتفاوض على اعادة ترسيم الحدود بين البلدين ، ومن باب التهكم والسخرية المرة اطلق بعض الصحفيين الغربيين على هذه الاشتباكات اسم (حرب التويوتا) ، حيث إن المنتصر فيها كانت الشاحنة الصغيرة الخفيفة الحركة والتي انتصرت على الدبابات والمدرعات .

خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية وهي محطمة وقد دمرت مصانعها والكثير من مبانيها المدنية والادارية ، والقت الولايات المتحدة عليها قنبلتين نوويتين (هيروشيما ونكازاكي) ، مما اضطر اليابانيون لاعلان استلامهم في منتصف شهر آب (اغسطس) عام 1945 ، اما السبب الذي اعطته الولايات المتحدة لأستخدامها السلاح النووي لأول مرة في التاريخ ، فهو وجود عشرات الالوف من الجنود الامريكيين اسرى في السجون اليابانية ، وخوفاً من اقدام اليابان على قتلهم قبل الاستسلام ، فقد لجأت للسلاح النووي لأجبار اليابانيين على الاستسلام وبسرعة ، وعندما تم توقيع معاهدة الاستسلام احس اليابانيون بالمهانة والمذلة ، حيث نزل 350 الف جندي امريكي على الاراضي اليابانية ، وصاروا هم المسؤولون مباشرة عن الادارة المحلية وتوزيع الطعام على السكان ، كما تم حل الحكومة والجيش وايقاف المصانع عن العمل ، وظل الاحتلال الامريكي جاثماً على صدور اليابانيين الى عام 1951 ، حين وقعت الحكومة اليابانية معاهدة سلام مع الولايات المتحدة ، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 28/4/1952 .

كانت الشروط التي فرضتها الولايات المتحدة على اليابان مجحفة واستفزازية ، ومن ضمنها استيلاء الولايات المتحدة على جزر اوكيناوا (جنوب اليابان) ، ولم تعد هذه الجزر للسيادة اليابانية الا في عام 1972 ، واثناء فترة الاحتلال بنت الولايات المتحدة واحدة من اكبر قواعدها العسكرية خارج الاراضي الامريكية ، ولحد اليوم يتذمر اليابانيون من وجود الوف من الجنود الامريكان المرابطين بصفة دائمية على اراضيهم . أما الجيش الياباني فقد فرضت الولايات المتحدة عليه التحول الى جيش دفاع محلي مجرد من الاسلحة الثقيلة ، ولم تسمح لليابان باستعادة جزء من قوتها العسكرية السابقة الا بعد عقود ، ومع ذلك تعتبر اليابان لحد اليوم تحت مظلة الحماية العسكرية الامريكية ، وهو ما خفف عنها التكلفة الاقتصادية الباهضة لتدريب الاف الجنود سنوياً وتسليحهم .

خلال فترة الاحتلال الامريكي المباشر ، تم وضع دستور جديد لليابان حول معظم صلاحيات الامبراطور الى الشعب ، بحيث تحول الامبراطور مثل ملوك اوربا ، كرمز لسيادة الدولة يملك ولا يحكم . من خلال هذا الدستور فرضت قيود مشددة على القادة العسكريين ، ومنع ارسال الجنود خارج حدود اليابان ، وحالياً اليابان لاتستطيع ارسال قوات او طائرات عسكرية للخارج للمشاركة في جهود الاغاثة الدولية ، كما لايشارك الجيش الياباني في قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة .

اجريت اول انتخابات وتشكلت اول حكومة يابانية بعد الحرب العالمية الثانية والدولة تحت الاحتلال ، ولم يتذمر احد ويقول إن الديمقراطية في ظل الاحتلال باطلة . كانت المهمة الاولى الملقاة على جيش الولايات المتحدة ومن بعدها الحكومات اليابانية المتعاقبة هي اطعام ملايين الجياع الذين دمرت الحرب مزارعهم ومدنهم وقراهم ، وبرنامج توزيع الاغذية على السكان قد كلف الخزينة الامريكية ودافع الضرائب الامريكي مبالغ طائلة ، وهذا ما اجبر الحكومة الامريكية على تخفيف القيود على النشاطين التجاري والصناعي لليابان .

كان المجتمع الياباني يعتمد في غذائه على مادتين اساسيتين ، الرز والسمك . ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تبق قطعة ارض زراعية او شبه صالحة للزراعة إلا واستغلت لتوفير الرز خاصة للأفواه الجائعة ، كما نمت اساطيل الصيد اليابانية وازداد نشاطها بصورة كبيرة لتوفير الاسماك للشعب ، وما أن رفعت القيود عن الصناعة حتى اسرع الصناعيون السابقون واصحاب رؤوس الاموال الكبيرة لبناء مصانع الاقمشة والملابس ، في حين ظلت صناعة الشاحنات والسيارات ، والمعدات والاجهزة الكهربائية وكاميرات التصوير ، ضعيفة جداً ولم تتطور الى منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي .

يروي احد الطيارين البريطانيين إنه ذهب في رحلة تجارية لنقل بضائع ومعدات الى اليابان ، واثناء وجوده هناك قام باخراج كاميرته لتصوير بعض شوارع اليابان ومناظرها الطبيعية وذلك ليريها لعائلته واصدقائه في بريطانيا عند عودته ، تقدم منه احد اليابانيين وسأله إن كان يبيع كاميرته ، وعندما رفض عرض الياباني عليه ضعف سعر الكاميرا الجديدة في بريطانيا ، فوافق الطيارعلى بيعها . في الرحلة التالية جلب الطيار كاميرتين معه ، وتكررت اللعبة وتم شراء الكامرتين بضعف سعرها في بريطانيا . عرف بقية الطيارون باللعبة فصار كل منهم يأتي بكامرتين أو ثلاثة معه ليبيعها في اليابان ، واحس رئيس الطيارين بالامر فمنعهم من ذلك ، فهم طيارون قادمون لنقل البضائع وليسوا تجار كاميرات ، ولو احست شركة الطيران بالموضوع لعاقبتهم جميعاً .

يذكر الطيار البريطاني إنه لم تمض بضعة سنوات على هذه الحادثة ، حتى انزلت اليابان مجموعة من خيرة الكاميرات المتطورة والمتفوقة على مثيلاتها الامريكية والاوربية الصنع ، فقد تبين لاحقاً إن من كان يشتري الكاميرات منهم هي شركات صناعة الكاميرات اليابانية ، والتي فككت الكاميرات الامريكية والاوربية وعرفت اسرار صناعتها . وهكذا عرف المهندسون اليابانيون كيف يتفقون على نظرائهم في الغرب .

لقد كان عقد السبعينيات من القرن الماضي هو عقد ازدهار الصناعة اليابانية وبأمتياز ، لكن لأن كلفة صناعة البضائع في اليابان قد ارتفعت خلال هذا العقد ، فقد قامت الشركات اليابانية بتوسيع نشاطها فنقلت جزء من مصانعها الى تايوان وكوريا وماليزيا واندينوسيا مما اوجد ازدهاراً اقتصادياً كبيراً في هذه البلدان ، وعندما حصل الانفتاح الاقتصادي في الصين نقل اليابانيون اليها الكثير من مصانعهم ، فالايد العاملة في الصين ارخص بكثير من بقية دول شرق آسيا ، لكن الصين كذلك صارت تتوسع في الصناعة وازاحت اليابان من بعض اسواق الشرق الاوسط وافريقيا ، واصبحت منافساً قوياً لليابان منذ بداية القرن الحالي ، ثم دخلت الهند وكوريا على خط المنافسة ، وكلهم اتخذوا من الطفرة الصناعية اليابانية التي حققتها خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نموذجاً وقدوة لهم ، فكيف استطاعت اليابان خلال عشرين عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية اعادة بناء نفسها والنهوض من كبوتها ؟؟ .

صحيح أن تحجيم قدرات الجيش الياباني ومنعه من خوض مغامرات عسكرية خارجية قد ادى الى تفرغ اليابانيين عملياً وتوجههم نحو الصناعة والتجارة ، وصحيح إن اليابانيين ارادوا تغيير نظرة العالم نحوهم فصار الغزو التجاري بديلاً عن الغزو العسكري ، ولكن السر الحقيقي يكمن في الاخلاقيات والسلوك الاجتماعي للشعب الياباني نفسه ، فالانسان الياباني عامة هو عامل نشط ومؤدب ، وملتزم بحب عائلته ومجتمعه ووطنه والتعصب لقوميته ، لايفكر بأسقاط النظام أو التمرد على القوانين .

يروي سائح امريكي إنه وصل اليابان في اواخر الخمسينيات ، ولأنه لايجيد اللغة اليابانية فقد اسـتأجر دليلاً سياحياً ليريه معالم طوكيو الاثارية واحيائها الشعبية ، واثناء تجوالها دخلا احد اسواق السمك الشعبية ، وفجأة نشب شجار بين اثنين من باعة الاسماك ، فتجمع باعة السمك والزبائن حول الرجلين ليروا سبب الشجار ونتيجته ، وقام المترجم الياباني بترجمة الحوار بين الرجلين المتشاجرين للسائح ، انتبه الامريكي بأن الشجار لم يتطور الى اشتباك بالايدي رغم غضب المتشاجرين الظاهر وارتفاع صوتيهما ، فسأل المترجم عن السبب ، فأخبره بأن العرف الاجتماعي الياباني يمنع رفع اي من المتشاجرين يده على الآخر ، وإلا سيعتبر البادئ في الاشتباك هو المذنب ويقوم باعة السوق بمقاطعته وعدم احترامه !! .

انظروا للفرق الرهيب بين اعرافنا الاجتماعية واعرافهم ، فحمل السلاح وأسـتخدام العنف ليس دليلاً على البطولة أو المهابة ، ورفع اليد على الاطفال والضعفاء والنسوة ليس سباعية أو مرجلة ، وإذا اردتم معرفة السبب في تطور عدة دول ودخولها في عصر الديمقراطية والتصنيع وبقاء العرب متخلفين ، فهذا المثل الياباني يعطينا صورة واضحة لمعنى التزام الادب أثناء الحوار أو الجدال ، ويعلمنا كيف يتعايش الرأي والرأي المضاد وبدون اصطدام تحت سقف واحد ، وبدون وجود الضد لن يحصل أي تقدم ولن تبنى أية حضارة أو مدنية .

من منا يستطيع السير على ساق واحدة ، ارفع احدى ساقيك وحاول استعمال الاخرى ، ستجد نفسك تقفز ولا تستطيع السير ، بل سرعان ما تفقد توازنك فتسقط على الارض . لقد خلق الله لنا ساقين لنستند على احداهما ونخطو بالثانية ، وبتبادل العمل بين الساقين يحدث المسير . وجعل الله للأنسان يدين لتمسك احداهما بالشئ وتديره او تفتحه او تكسره اليد الثانية . كما خلق الله الصحة والمرض ، ولولا وجود الميكروبات والجراثيم لما تطور جهاز المناعة المكتسبة لدى الانسان . لقد خلق الله لنا عقولاً متفاوتة في المعرفة والادراك ، لنتبادل العلم والمعرفة ونتطور في المدنية والحضارة ، والله هو القائل { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير / الآية الثامنة من سورة الشورى } ، فمن انت ايها الانسان لتعاند ارادة الله وتحاول فرض دينك أومذهبك على عامة الناس ، ولايوجد لدينا في الاسلام فكرة الشمولية المطلقة ، ومبدأ حزب واحد وقومية واحدة وزعيم ملهم غير مطروحة اصلاً في العقيدة الاسلامية ، وقد تقبل المسلمون معايشة من يخالفهم في العقيدة والمبدأ ، وفي عهد الخلفاء الراشدين اخذت الجزية من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ، والجزية لمن لايعرفها تفرض على كل ذكر بالغ يستطيع حمل السلاح فقط ، والمعفو منها كل الاناث والاطفال والعجزة والمرضى ورجال الدين .

نرجع الى القصة اليابانية بعد ان خرجنا عنها ، بائعا سمك في سوق شعبي ياباني يلتزمان بالاعراف والتقاليد ، فلا يرفع احدهما يده على الآخر ، ونحن نشتبك بالايدي والارجل عند اتفه شجار ، ونغضب اذا رد احد علينا او خالفنا الرأي ، من الطبيعي ان تتطور اليابان ونتخلف ، بل ونصبح في ذيل قائمة الشعوب المتمدنة أوالمتحضرة .

كلمة اخيرة : لولا وجود سلكي كهرباء (حار وبارد) ، فلن تستطيع اضاءة مصباح يبدد الظلام وشكراً .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب