الكثير من شباب اليوم لايعرفون شيئاً عن ذروة الطفرة التجارية التي حققتها اليابان خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، فلقد غزت الراديوهات ومسجلات الكاسيت من علامات ناشينول وسانيو وهيتاشي وتوشيبا اسواق الدول العربية بلا استثناء ، وكذلك استطاعت المراوح الهوائية واجهزة تكييف الهواء اليابانية اثبات قوتها ومتانتها في العراق ودول الخليج الحارة ، فيما اكتسـحت الساعات اليابانية مثل سايكو وكاسيو واورينت سوق الساعات وازاحت ملكة صناعة الساعات (أي سويسـرا) نهائياً عن عرشها ، أما سيارات تويوتا وداتسون وميتسوبيشي فقد اجتاحت شوارع مدن وقرى الشرق الاوسط وافريقيا وصارت منافساً خطراً للسيارات الفرنسية والامريكية ، بل إن شاحنة تويوتا الصغيرة (طن واحد) اثبتت قدرتها الفائقة للسير على الطرق الترابية والرملية مما جعلها الشاحنة الاولى المطلوبة للعمل في وسط افريقيا .
ظل العقيد معمر القذافي منذ منتصف السبعينيات يتدخل بصورة دائمية في شؤون تشاد الداخلية ، ويسند فريقاً من التشاديين بالمال والسلاح ضد فريق آخر ، وفي منتصف الثمانينات حدثت اشتباكات عنيفة بين الجيش الليبي والقوات التشادية ، حيث كان القذافي يزعم بأن الشريط الحدودي والمسمى (تيزي اوزو) ، والغني بالمنغنيز واليورانيوم هو من ضمن الاراضي الليبية ، وذلك بناء على اتفاقية قديمة مهملة وقعتها كل من ايطاليا (الدولة المحتلة لليبيا) وفرنسا (الدولة المحتلة لتشاد) عام 1935 . لقد كان القذافي يطمع بالاستيلاء على هذا الشريط الصحراوي الحدودي والذي تتجاوز مساحته الثمانون الف كيلومتر مربع ، فقام بكل غباء بارسال دباباته ومدرعاته الى داخل الاراضي التشادية ، وبما إن الطرق في المنطقة كانت غير معبدة ، فكثيراً ما كانت الاليات الليبية الثقيلة تغرس في الرمال . بالمقابل اتحدت عدة فصائل تشادية كانت متحاربة من قبل ، محاولين منع القذافي من اقتطاع هذا الجزء من تشاد .
كانت تشاد ومازالت دولة فقيرة لاتمتلك الكثير من المعدات الحربية ، فقامت بأستخدام شاحنات التويوتا الصغيرة في نقل مقاتليها ، والذين حملوا معهم صواريخ خفيفة مضادة للطائرات والدبابات ( اظن إن فرنسا ودول غربية آخرى زودتهم بها) ، حيث كانوا يطلقونها على الدبابات والمدرعات الليبية ويعطلونها ، ولأن الطائرات الليبية لاتستطيع متابعة حركة الشاحنات الصغيرة الخفيفة الحركة والمتنقلة بسرعة وسط رمال الصحراء من الجو ، فلقد حقق التشاديون انتصاراً غريباً ومذهلاً واسروا المئات من المقاتلين الليبين ، بل ودخلوا داخل الاراضي الليبية مستولين على بعض المراكز الحدودية الصحراوية ، وهذا مما اجبر القذافي وبضغط من المجتمع الدولي على الجلوس للتفاوض على اعادة ترسيم الحدود بين البلدين ، ومن باب التهكم والسخرية المرة اطلق بعض الصحفيين الغربيين على هذه الاشتباكات اسم (حرب التويوتا) ، حيث إن المنتصر فيها كانت الشاحنة الصغيرة الخفيفة الحركة والتي انتصرت على الدبابات والمدرعات .
خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية وهي محطمة وقد دمرت مصانعها والكثير من مبانيها المدنية والادارية ، والقت الولايات المتحدة عليها قنبلتين نوويتين (هيروشيما ونكازاكي) ، مما اضطر اليابانيون لاعلان استلامهم في منتصف شهر آب (اغسطس) عام 1945 ، اما السبب الذي اعطته الولايات المتحدة لأستخدامها السلاح النووي لأول مرة في التاريخ ، فهو وجود عشرات الالوف من الجنود الامريكيين اسرى في السجون اليابانية ، وخوفاً من اقدام اليابان على قتلهم قبل الاستسلام ، فقد لجأت للسلاح النووي لأجبار اليابانيين على الاستسلام وبسرعة ، وعندما تم توقيع معاهدة الاستسلام احس اليابانيون بالمهانة والمذلة ، حيث نزل 350 الف جندي امريكي على الاراضي اليابانية ، وصاروا هم المسؤولون مباشرة عن الادارة المحلية وتوزيع الطعام على السكان ، كما تم حل الحكومة والجيش وايقاف المصانع عن العمل ، وظل الاحتلال الامريكي جاثماً على صدور اليابانيين الى عام 1951 ، حين وقعت الحكومة اليابانية معاهدة سلام مع الولايات المتحدة ، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 28/4/1952 .
كانت الشروط التي فرضتها الولايات المتحدة على اليابان مجحفة واستفزازية ، ومن ضمنها استيلاء الولايات المتحدة على جزر اوكيناوا (جنوب اليابان) ، ولم تعد هذه الجزر للسيادة اليابانية الا في عام 1972 ، واثناء فترة الاحتلال بنت الولايات المتحدة واحدة من اكبر قواعدها العسكرية خارج الاراضي الامريكية ، ولحد اليوم يتذمر اليابانيون من وجود الوف من الجنود الامريكان المرابطين بصفة دائمية على اراضيهم . أما الجيش الياباني فقد فرضت الولايات المتحدة عليه التحول الى جيش دفاع محلي مجرد من الاسلحة الثقيلة ، ولم تسمح لليابان باستعادة جزء من قوتها العسكرية السابقة الا بعد عقود ، ومع ذلك تعتبر اليابان لحد اليوم تحت مظلة الحماية العسكرية الامريكية ، وهو ما خفف عنها التكلفة الاقتصادية الباهضة لتدريب الاف الجنود سنوياً وتسليحهم .
خلال فترة الاحتلال الامريكي المباشر ، تم وضع دستور جديد لليابان حول معظم صلاحيات الامبراطور الى الشعب ، بحيث تحول الامبراطور مثل ملوك اوربا ، كرمز لسيادة الدولة يملك ولا يحكم . من خلال هذا الدستور فرضت قيود مشددة على القادة العسكريين ، ومنع ارسال الجنود خارج حدود اليابان ، وحالياً اليابان لاتستطيع ارسال قوات او طائرات عسكرية للخارج للمشاركة في جهود الاغاثة الدولية ، كما لايشارك الجيش الياباني في قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة .
اجريت اول انتخابات وتشكلت اول حكومة يابانية بعد الحرب العالمية الثانية والدولة تحت الاحتلال ، ولم يتذمر احد ويقول إن الديمقراطية في ظل الاحتلال باطلة . كانت المهمة الاولى الملقاة على جيش الولايات المتحدة ومن بعدها الحكومات اليابانية المتعاقبة هي اطعام ملايين الجياع الذين دمرت الحرب مزارعهم ومدنهم وقراهم ، وبرنامج توزيع الاغذية على السكان قد كلف الخزينة الامريكية ودافع الضرائب الامريكي مبالغ طائلة ، وهذا ما اجبر الحكومة الامريكية على تخفيف القيود على النشاطين التجاري والصناعي لليابان .
كان المجتمع الياباني يعتمد في غذائه على مادتين اساسيتين ، الرز والسمك . ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تبق قطعة ارض زراعية او شبه صالحة للزراعة إلا واستغلت لتوفير الرز خاصة للأفواه الجائعة ، كما نمت اساطيل الصيد اليابانية وازداد نشاطها بصورة كبيرة لتوفير الاسماك للشعب ، وما أن رفعت القيود عن الصناعة حتى اسرع الصناعيون السابقون واصحاب رؤوس الاموال الكبيرة لبناء مصانع الاقمشة والملابس ، في حين ظلت صناعة الشاحنات والسيارات ، والمعدات والاجهزة الكهربائية وكاميرات التصوير ، ضعيفة جداً ولم تتطور الى منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي .
يروي احد الطيارين البريطانيين إنه ذهب في رحلة تجارية لنقل بضائع ومعدات الى اليابان ، واثناء وجوده هناك قام باخراج كاميرته لتصوير بعض شوارع اليابان ومناظرها الطبيعية وذلك ليريها لعائلته واصدقائه في بريطانيا عند عودته ، تقدم منه احد اليابانيين وسأله إن كان يبيع كاميرته ، وعندما رفض عرض الياباني عليه ضعف سعر الكاميرا الجديدة في بريطانيا ، فوافق الطيارعلى بيعها . في الرحلة التالية جلب الطيار كاميرتين معه ، وتكررت اللعبة وتم شراء الكامرتين بضعف سعرها في بريطانيا . عرف بقية الطيارون باللعبة فصار كل منهم يأتي بكامرتين أو ثلاثة معه ليبيعها في اليابان ، واحس رئيس الطيارين بالامر فمنعهم من ذلك ، فهم طيارون قادمون لنقل البضائع وليسوا تجار كاميرات ، ولو احست شركة الطيران بالموضوع لعاقبتهم جميعاً .
يذكر الطيار البريطاني إنه لم تمض بضعة سنوات على هذه الحادثة ، حتى انزلت اليابان مجموعة من خيرة الكاميرات المتطورة والمتفوقة على مثيلاتها الامريكية والاوربية الصنع ، فقد تبين لاحقاً إن من كان يشتري الكاميرات منهم هي شركات صناعة الكاميرات اليابانية ، والتي فككت الكاميرات الامريكية والاوربية وعرفت اسرار صناعتها . وهكذا عرف المهندسون اليابانيون كيف يتفقون على نظرائهم في الغرب .
لقد كان عقد السبعينيات من القرن الماضي هو عقد ازدهار الصناعة اليابانية وبأمتياز ، لكن لأن كلفة صناعة البضائع في اليابان قد ارتفعت خلال هذا العقد ، فقد قامت الشركات اليابانية بتوسيع نشاطها فنقلت جزء من مصانعها الى تايوان وكوريا وماليزيا واندينوسيا مما اوجد ازدهاراً اقتصادياً كبيراً في هذه البلدان ، وعندما حصل الانفتاح الاقتصادي في الصين نقل اليابانيون اليها الكثير من مصانعهم ، فالايد العاملة في الصين ارخص بكثير من بقية دول شرق آسيا ، لكن الصين كذلك صارت تتوسع في الصناعة وازاحت اليابان من بعض اسواق الشرق الاوسط وافريقيا ، واصبحت منافساً قوياً لليابان منذ بداية القرن الحالي ، ثم دخلت الهند وكوريا على خط المنافسة ، وكلهم اتخذوا من الطفرة الصناعية اليابانية التي حققتها خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نموذجاً وقدوة لهم ، فكيف استطاعت اليابان خلال عشرين عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية اعادة بناء نفسها والنهوض من كبوتها ؟؟ .
صحيح أن تحجيم قدرات الجيش الياباني ومنعه من خوض مغامرات عسكرية خارجية قد ادى الى تفرغ اليابانيين عملياً وتوجههم نحو الصناعة والتجارة ، وصحيح إن اليابانيين ارادوا تغيير نظرة العالم نحوهم فصار الغزو التجاري بديلاً عن الغزو العسكري ، ولكن السر الحقيقي يكمن في الاخلاقيات والسلوك الاجتماعي للشعب الياباني نفسه ، فالانسان الياباني عامة هو عامل نشط ومؤدب ، وملتزم بحب عائلته ومجتمعه ووطنه والتعصب لقوميته ، لايفكر بأسقاط النظام أو التمرد على القوانين .
يروي سائح امريكي إنه وصل اليابان في اواخر الخمسينيات ، ولأنه لايجيد اللغة اليابانية فقد اسـتأجر دليلاً سياحياً ليريه معالم طوكيو الاثارية واحيائها الشعبية ، واثناء تجوالها دخلا احد اسواق السمك الشعبية ، وفجأة نشب شجار بين اثنين من باعة الاسماك ، فتجمع باعة السمك والزبائن حول الرجلين ليروا سبب الشجار ونتيجته ، وقام المترجم الياباني بترجمة الحوار بين الرجلين المتشاجرين للسائح ، انتبه الامريكي بأن الشجار لم يتطور الى اشتباك بالايدي رغم غضب المتشاجرين الظاهر وارتفاع صوتيهما ، فسأل المترجم عن السبب ، فأخبره بأن العرف الاجتماعي الياباني يمنع رفع اي من المتشاجرين يده على الآخر ، وإلا سيعتبر البادئ في الاشتباك هو المذنب ويقوم باعة السوق بمقاطعته وعدم احترامه !! .
انظروا للفرق الرهيب بين اعرافنا الاجتماعية واعرافهم ، فحمل السلاح وأسـتخدام العنف ليس دليلاً على البطولة أو المهابة ، ورفع اليد على الاطفال والضعفاء والنسوة ليس سباعية أو مرجلة ، وإذا اردتم معرفة السبب في تطور عدة دول ودخولها في عصر الديمقراطية والتصنيع وبقاء العرب متخلفين ، فهذا المثل الياباني يعطينا صورة واضحة لمعنى التزام الادب أثناء الحوار أو الجدال ، ويعلمنا كيف يتعايش الرأي والرأي المضاد وبدون اصطدام تحت سقف واحد ، وبدون وجود الضد لن يحصل أي تقدم ولن تبنى أية حضارة أو مدنية .
من منا يستطيع السير على ساق واحدة ، ارفع احدى ساقيك وحاول استعمال الاخرى ، ستجد نفسك تقفز ولا تستطيع السير ، بل سرعان ما تفقد توازنك فتسقط على الارض . لقد خلق الله لنا ساقين لنستند على احداهما ونخطو بالثانية ، وبتبادل العمل بين الساقين يحدث المسير . وجعل الله للأنسان يدين لتمسك احداهما بالشئ وتديره او تفتحه او تكسره اليد الثانية . كما خلق الله الصحة والمرض ، ولولا وجود الميكروبات والجراثيم لما تطور جهاز المناعة المكتسبة لدى الانسان . لقد خلق الله لنا عقولاً متفاوتة في المعرفة والادراك ، لنتبادل العلم والمعرفة ونتطور في المدنية والحضارة ، والله هو القائل { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير / الآية الثامنة من سورة الشورى } ، فمن انت ايها الانسان لتعاند ارادة الله وتحاول فرض دينك أومذهبك على عامة الناس ، ولايوجد لدينا في الاسلام فكرة الشمولية المطلقة ، ومبدأ حزب واحد وقومية واحدة وزعيم ملهم غير مطروحة اصلاً في العقيدة الاسلامية ، وقد تقبل المسلمون معايشة من يخالفهم في العقيدة والمبدأ ، وفي عهد الخلفاء الراشدين اخذت الجزية من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ، والجزية لمن لايعرفها تفرض على كل ذكر بالغ يستطيع حمل السلاح فقط ، والمعفو منها كل الاناث والاطفال والعجزة والمرضى ورجال الدين .
نرجع الى القصة اليابانية بعد ان خرجنا عنها ، بائعا سمك في سوق شعبي ياباني يلتزمان بالاعراف والتقاليد ، فلا يرفع احدهما يده على الآخر ، ونحن نشتبك بالايدي والارجل عند اتفه شجار ، ونغضب اذا رد احد علينا او خالفنا الرأي ، من الطبيعي ان تتطور اليابان ونتخلف ، بل ونصبح في ذيل قائمة الشعوب المتمدنة أوالمتحضرة .
كلمة اخيرة : لولا وجود سلكي كهرباء (حار وبارد) ، فلن تستطيع اضاءة مصباح يبدد الظلام وشكراً .