كلما عاد أصدقائي من المشرق أو المغرب ، حملوا لي معهم هدايا متنوعة ، ومن بينها بعض الكتب التي أحب ، روايات وقصص ومسرحيات تمتص غربتي وتصلني بما انقطع . وكانت مفاجأتي أن وجدتُ في ما وصلني كتابا بعنوان ” أسفار لا تخشى الخيال ” للكاتب المغربي شعيب حليفي ضمن إصدارات النايا السورية بلبنان(طبعة 2014) ويبدو أنها ليست الطبعة الأولى . والكتاب ، اعتقدته في البداية رواية ، لأنها الصفة التي يشتهر بها الكاتب ثم اكتشفت انه مجموعة من الأسفار أطلق عليها عنوانا فرعيا باسم «كتاب الأيام» لأسفار قام بها ،وكما يقول في مقدمته وأيضا على ظهر الغلاف : « كتابُ الأيام ..هو خلاصَة إبداعية جمَعَت بين السَّفر والكتابة ، لتكونَ نصا ثقافيّا واحدا من فصول ومرايا تسمى : طرابلس والقاهرة والرقة والرياض ، تعكسُ باندهاشٍ وبداهة ، في ضوء شموس التخييل حالات المسافر والكاتب ، ما أرى وما أريد رؤيته وجُل ما يختمر بوجداني قبل ذاكرتي، وما أحب كتابته … فأدوِّنُ كلّ ذلك بلُغتي وصوتي ، قريبا من نفسي ومن الأمكنة، بما تحمله وتُخفيه ».
ومباشرة قادني الحنين إلى وطني لأقرأ ما كتبه عن سفره إلى سوريا في الفصل الخامس ،بعنوان العبور إلى الشام /صفحات105- 126 / كنتُ بدأت القراءة ببطء ، ثم سرعان ما شرع قلبي يدق سريعا وأنا أتمنى ألا ينتهي هذا النص . ولكي لا أنهيه قرأته مرات ومرات وفي كل مرة كنت أستشف معاني جديدة ، قبل أن أعود لقراءة كل الأسفار، ثم بدافع الفضول أبحث عما كتب هذا الكاتب أو ما كتب عنه ، فأبحرت أكتشف المغرب والأمازيغ والشاوية . كما قرأت ما كتبه عنه النقاد وتوقفت عند مقالة للكاتبة الليبية فريدة المصري من جامعة طرابلس ، بعنوان «هل تنبأ شعيب حليفي بما حصل ؟ » وهي مقالة أوحت لي بكاتبة هذه الخواطر وطرح نفس السؤال : هل تنبأ شعيب المغربي بما كان سيحصل في سوريا ؟ فقد زار الرقة في كانون الأول من عام 2009 وبعد سنة وبضعة أشهر حصل ما حصل .
يقول شعيب:
« وفي الثانيتين أو أقل بقليل ،أحدق أفقيا، كمن يرى كل بلاد الشام لآخر مرة .إحساس آلمني كوني متأكد بأني لن أعود إلى سوريا أبدا بعد خطوات فقط تفصلني عن باب الطائرة.ومردّ هذا الشعور أني رأيت هناك ، في اليوم الثاني من وصولي ،حلما مكتمل الشروط . رأيتني مجتمعا بعدد من الأصدقاء السوريين الأكراد والأتراك، وجرت بيننا حوارات ، كما زرتُ الشام/دمشق وفاوضت الأمويين . ورأيتُني في مكان يسمى بالشاوية ثم الرصافة أعيد بناء ملكي ومسجدي الذي أرى منه عهودي ،وأهش فيه على ورعي وتقواي.
في آخر الحلم ، وكان مشهدا سريعا وعنيفا ، جماعة من العساكر يتقدمهم ضابط مثقل بالنياشين.. يأخذونني إلى بهو بارد وطويل ، ثم شرعوا في استنطاقي وسط ظروف مذلة ؛بعد ذلك صلبوني رغم أني مسلم كامل الإسلام.
أنا أثق في أحلامي المتضمنة لعلامات وإشارات مرتبطة بالسياقات النهارية والأحداث التي أعيشها. إنها جزء من حدوسي السرية ، والتي يبقى تأويلها عندي وعند غيري يسيرا وفي المتناول» ص- 108.
عدتُ أرمي خطواتي الأخيرة في بلاد الشام العزيزة، وقد شعرتُ بسخونة جياشة في صدري وامتلاء حار في عينيَّ بالدمع العصي، وصوت الأب يصلني واضحا وهو يدعو ابنته باسمها- كما ناداها أول مرة – إلى الإسراع »ص- 109.
لقد توهمت في كثير من مقاطع هذا السفر أن الكاتب يحكي عني ، فقد هاجرت برا خارج سوريا ثم بالطائرة رفقة بعض أهلي وأحسست بنفس الشعور .فهو يقول «وكان مزاجي متعكرا جرَّاء التعب والجو البارد الذي استقبلنا به مناخ البلد » . وقد اختار الكاتب طريقة عجيبة في تفسير تنبؤه بما سيجري ، فهو الحلم وثانيا الشعور الباطني ، ثم قصة الشريحة . بعد ذلك سيلجأ إلى أسلوب القصص الرمزي ، سواء في حكايات لتسلية المسافر التي هي صورة فاضحة لما كان يجري في سوريا بشخصياتها : همام وولاء وعصمان وطه ووضاء ، هذه الشخصيات يمكن لأي عربي سوري أن يطابقها على شخصيات حقيقية عندنا . ثم لما يلتحم بشخصية الأمازيغي المحارب الذي يعود إلى العهود الغابرة لتحرير هذا البلد من الظلم بأسلوب فني يجعلك تستمتع وتتألم .أما الرمز الآخر فهو حديثه عن العشاء الأخير والتضحية والتطهر :
«كان الجميع يتأمل تواريخ الظنون في نفوسنا، ولكنني “في تلك الليلة التي امتدت من وقت معلوم، ولن يعرف أحد متى انتهت !” أستطيع التحدث عما كان في نفسي، فقد أحسست بعدما كنت يائسا إنه بإمكاني معاودة ركوب فرسي الذي تركته مربوطا في الخلاء، قبل ألفي عام أو أقل بقليل. بإمكاني معاودة الركوب عليه دون سرج ورسن أو لوازم، والانطلاق بعيدا للعبور نحو روحي .
من فينا كان النبي الذي كنا سنُضحي به حتى تتطهَّرَ أقدارنا ونظراتنا وأصواتنا؟…»ص- 116و117.
سأغامر وأقول إن كل كلمة كتبها شعيب في هذا السفر الشامي تحمل معنى قويا ولصيقا بما كان وما يجري . وكأني به كتب ما يجري الآن وما علينا إلا قراءته من جديد بالنفحات الآملة التي تطبعه طبعا .إنه « مازغ، المولع بالغزوات، يركب فرسه وهو ممتلئ بالطموح والمغامرة،خرج من الشاوية قاصدا بلاد الشام، وحيدا، باحثا عن تحرير أحلامه المعتقلة لدى أخواله وأعمامه». فهو من رأى «الشمس خفية متوارية وراء حجاب رمادي. أما السحابات القابعة فوقنا،فإنها تتهادى في لامبالاة ، تسمح لنا من حين لآخر بفجوة نرى من خلالها السماء، صفحة للناس الطيبين ،يكتبون عليها مآثرهم وأحلامهم».
كما تحدث كثيرا عن الطابق الخامس الذي أراه سنة خامسة ستنفرج فيها هذه الغمة السورية ، وتراه يقول في حوارمع صديقه :
« قلت لصديقي الذي كان على يميني: لا تخشَ أعداءنا، فلن نموت أبدا إلا إذا قتلنا أصدقاؤنا.
وقلت لصديقي الذي كان على شمالي: نحن أيتام منذ موت محمد، ولكن المائدة هاته جمعتنا لنبدد خطايانا ونعلن محبتنا لبعضنا.
قلت لنفسي : تمنيت لو كان بمقدوري ضم هذه الأرض بأهلها إلى ممالكي».
لقد قرأت أيضا لشعيب حليفي ما وجدته له من إبداع في بعض المواقع ، وتأكد لي بأنه شخص يحمل موهبة التنبؤ ، وإن كان يلصق ذلك في التاريخ وفي شخصيات أمازيغية يقول بأصواتها ما يؤمن به ويراه .
إنه يقول « كل إنسان يملك مِرآة رمزية يفك بها شفرات ما يسمع ويرى، وما يفكر فيه ؛ ونفس المِرآة تصوغ له المعاني التي يُنتجها .أما مِرآتي فهي في مواصلة تدوين ما يهبط عليَّ من معانٍ عارية حول ما يقع بالجبل ، فأراها قد انكسرت ، ورُبَّ ضارة نافعة ».
ويقول أيضا : «كانت الحيرة هي سبيلنا الوحيد للوصول إلى أرض الدهشة. نتكلم ونحكي، ومن حين لآخر يُنزل الله علينا شيئا في صدورنا نقوله ثم نمضي، دون أن يجرؤ أحد منا على تقييده ..فهو كلام هبط ليذوب مع أنفاسنا الزكية والحارة»
سيدي ، شعيب حليفي : هل أنت ساحر أم نبي ؟ أم فقط شعورك المرهف يحول ما تكتبه إلى ما يشبه التنبؤ .