حينما يواجه زعيم سياسي (ما) أزمة انقسام وطني فإن العبارة الاثيرة للأم ذلك الانقسام و بناء جسور بين كل المكونات الوطنية تكون هي “انا اقف علي مسافة واحدة من الجميع” أو بصيغة اخري “سأكون رئيساً للجميع”، و في الغالب يكون لهذه العبارة مفعول ساحر في تقليل التوتر و نزع فتيل الازمة و الاحتقان السياسي..
لكن الجديد اليوم علي ضوء موجة الاحتجاجات التي افضت أو في سبيلها لأن تفضي الي تغيير انظمة حكم في المنطقة العربية و الاسلامية فهو ان الشعوب اعلنت (و اثبتت ايضاً) انها تقف علي مسافة واحدة من جميع قادة و ساسة الأحزاب و الفصائل السياسية-الطائفية!
لقد نجح الجمهور غير المؤطر في تلك القوالب السياسو-طائفية في ان يعبر متكاملاً و متجاوزاً انقسامه الاجتماعي، و إن يعلي من عنصر المواطنة و يحيد عناصر الدين-و المذهب أو العرق أو اللسان أو الانتماء المناطقي )الجغرافيا(..
اللافت ان الدول الاربعة التي اطلقت النسخة الجديدة من ثورات التغيير شهدت كلها في السابق حروباً اهلية و طائفية أو اضطراباً عنيفاً و انقساماً عميقاً في جبهتها الداخلية و اهتزت و حدتها الوطنية، فالسودان (صاحب قصب السبق) خرج لتوه من ما يصفها المراقبون (اطول حرب اهلية في افريقيا) 1955-2005م و انتهت بتقسيم السودان الي سودانين (شمالي و جنوبي) ثم حرباً عنيفةً بين سلطة الحكومة و منقسمين منها و خارجين ضدها في اقليم دارفور الغربي (منذ 2003م) هدأت حالياً و لكن السلام لم يحل بعد فيه.
و الجزائر شهدت حقبة مظلمة من العنف و العنف المضاد في تسعينات القرن الماضي فيما يعرف بالعشرية السوداء نتيجة تمرد حركات الإسلام السياسي هناك علي سلطة الدولة و طال العنف المجتمع الجزائري و ضربه في عمق تماسكه.
و لبنان شهد حرباً اهلية طاحنة اواخر السبعينات و طوال عقد الثمانينات لم تنتهي إلا بسلام هش و بعد ابرام عقد (طائفي) في مدنية الطائف السعودية! أصبحت به المحاصصة الطائفية تستند لقاعدة دستورية و الانقسام المجتمعي (بين مسيحيين و مسلمين سنة و آخرين شيعة) امراً واقعاً علي الناس ان يتعايشوا معه و يقبلوه و يتمسكوا به!
كذلك العراق الذي شهد عنفاً ضد المناهضين لنظام البعث خصوصاً من شيعة الجنوب العرب و اكراد الشمال السنة! و شهد عدة حروب دولية ضده اسفرت عن سقوط حكم البعث في 2003م و صعود الطائفية السياسية الدموية و التي بلغت مرحلة انتاج (داعش(.
برغم ذلك الانقسام و العنف الذي تم توظيفه سياسياً خدمةً لاجندة احزاب و زعماء سياسيين و الذي يمثل عقبة بوجه تأسيس دولة القانون و الدولة المدينة و التداول السلس والسلمي للسلطة،إلا ان الشعوب نجحت في انتاج خطاب سياسي شعبي يوحد كل الطوائف و الفصائل.. و يعبر بالمجتمع فوق الانقسامات و الهواجس الزائفة لتحقق التطلعات الجوهرية و المتمثلة في اقامة مجتمع العدالة و الأمان و يلبي الحاجة المعيشية وصولاً لمجتمع الكفاية ثم الرفاهية.
ان هذا العبور فوق الشكوك و المخاوف و الهواجس التي مكنت “النخب الطائفية” من الاستئثار بالسلطة و الموارد الوطنية سيكون له ما بعده، و لن تعود الشعوب ثانيةً لأقفاص الخوف و التخوين و الخنادق الطائفية.