23 ديسمبر، 2024 9:12 ص

شعوب أسوأ من حكامها

شعوب أسوأ من حكامها

إن أساس الفكرة هنا أن خليطا من العوامل والظروف التاريخية والجغرافية والاقتصادية والعقائدية تصنع النفسية العامة للشعوب، فتملؤها، في شعب من الشعوب، بالسكينة والتعقل والتسامح والصدق والعدل والكرم وحسن الخلق، وتزرع في الغالبية، من شعب آخر، نوازع الحقد والحسد والطمع والتهور والغدر والرغبة في الاعتداء، دون سبب، على من تستطيع إليه سبيلا.

ويقول أحدنا إن “أهل هذه البلاد محبون طيبون مسالمون”، و”أهل تلك مُبغَضون شريرون عدائيون”. وحتىى لو صادف، استثناءً، وجود أقليةٍ غير متطابقة مع مزاج الأغلبية فهو لا يكفي لتغيير حكمنا على شعب يعد بالملايين.

والجدل الدائر، من بداية الحياة البشرية إلى اليوم، يتركز حول نقطة إشكالية واحدة، وهي هل القيادة هي التي تصنع الشعوب، أم الشعوب هي التي تلد القيادة من أحشائها، ثم تسير خلفها بعد ذلك؟!.

أم إن هناك ترابطا وتلاقحا وتزاوجا بين الحاكم والمحكوم، لخلق تناغم ضروري يؤدي إلى خلق وحدة بينهما لضمان دوام الحال. فلم يصبر شعب عادل على حاكم ظالم طويلا، ولا استطاع حاكم ظالم أن يُديم حكمه على شعب يكره ظلمه ويأباه على نفسه وعلى غيره من شعوب. (كيفما تكونوا يُولَّ عليكم).

وما حدث مؤخرا في كوريا الشمالية أمر يفسر هذه الفكرة بكل وضوح. فقد أمر الزعيم (المحبوب) كيم إيل جونغ بإعدام وزير دفاعه “هيون يونغ تشول” بإطلاق النار عليه من مدفع مضاد للطائرات، في ساحة عامة، أمام جمهور غفير من المتفرجين. وتقول التقارير أن سبب إعدامه يعود لظهوره وقد أصابه النعاس في عرض عسكري حضره الزعيم.

والحقيقة المؤلمة أن الملايين (الثورية) من الكوريين الشماليين المتدافعة اليوم في تأليه الزعيم (كيم إيل جونغ) وتنفيذ أوامره بحماس جنوني عجيب، كانت مندفعة أيضا، وبنفس الحماس الجنوني العجيب، وراء والده (كيم جونغ إل)، وقبله خلف جده (كيم إيل سونغ) الذي حملته القوات السوفيتية ليكون أداتها لتقسيم كوريا عام 1945.

وفي كل هذه السنين لم تتوقف، ولو ساعة واحدة، لتسأل نفسها عما في قرارات هؤلاء الزعماء الغريبة والعجيبة من صواب أو من نزق وعبث وغرور وجنون.

وقد يعترض قاريء فيقول إن الجماهير الكورية الشمالية العريضة مغلوبة على أمرها، وإن أجهزة السلطة الديكتاتورية التي لا ترحم هي التي تجبر الناس على الرضوخ، بقسوتها في البطش والقهر والانتقام.

وللرد على قول من هذا النوع لابد أن نعترف بأن الذي أفرز القساة العاملين في أجهزة القمع المتجبرة هي الجماهير العريضة، ذاتها. لأن الزعيم المحبوب لم يستورد قتلة وجزارين من وراء الحدود.

ومما يثير العجب أن هناك على حدود هذه الدولة المارقة المجنونة المتهورة تقوم دولة كورية أخرى، شعبُها من نفس فصيلة الدم، ومن نفس الأصول، ولكنها عاقلة، مسالمة، تحكمها الجدية والعقلانية والمسالمة وروح المواطنة الصالحة وثقافة الحرية وسلطة القانون. شعبها هو الذي يقود الحكومة، ويرسم خطوط سيرها، ويختار أشخاصها بحرية وصدق ووطنية قليلة المثيل.

والآن تعالوا نتأمل ما ناب العراق الصغير على يد جارته الشقيقة الكبرى في الدين، ليس من أيام غزوها لبابل، بل فقط من أيام الغزو الإسلامي العربي لأراضي الإمبراطورية الفارسية الذي قلب أهلها على الزرادشية، وأدخلهم، عنوة وبقوة السلاح، إلى الدين الجديد. واستعرضوا معي ما دفعه العراقيون، معارضين لإيران أو موالين، من ألم ودم ودموع ثمنا لهذه الجيرة الخائبة.

وهاهي اليوم تُخفي عصبيتها القومية العنصرية الحقيقية بثياب المظلومية المذهبية الخادعة، وتتوقد فيها من جديد روح التعالي على الشعوب، والرغبة الجامحة في إذلال الشعوب المجاورة لها والبعيدة، والتوسع والاحتلال.

والثابت المؤكد أن الطبيعة العدائية للأكثرية من الشعب الإيراني المولعة بغزو الشعوب المجاورة لم تتغير من مئات السنين.

ومثال على ذلك أن من احتل الجزر الإماراتية الثلاث هي دولة الشاه (النصف علمانية). وكان مؤملا أن يعمد النظام (الثوري) (الإسلامي) الجديد المنقلب على سياسات النظام القديم (العميل لقوى الإستكبار العالمية) إلى تصحيح ذلك الخطأ، فيرفض الاعتداء على (الإخوة في الدين)، ويأمر باحترام الجيرة، ثم يعيد تلك الجزر الثلاث إلى أصحابها. ولكن الملالي لم يصروا على احتلالها فقط، وما زالوا يصرون، بل تعدوها إلى احتلال غيرها من مدن وقرى وعواصم عربية آمنة، يجاهرون اليوم بضمها إلى إمبراطوريتهم الفارسية، ويباهون بغزوها.

وقد كانت الحرب العراقية الإيرانية، بين جيوش الخميني وجيوش صدام حسين حربا طائفية بامتياز، وكانت شرارتها الأولى فكرة الخميني في تصدير الثورة إلى العراق، ومنه إلى دول المنطقة الأخرى، لنشر عباءته عليها، وإدخالها، عنوة وبحد السيف، تحت عباءته (المقدسة)، وإجبار أهلها على قبول فهمه، هو وحده، للدين.

ولولا وعي الطائفة الشيعية العراقية التي أثبتت أن انتماءها الوطني أكثر ثباتا وقوة من طائفيتها، ولولا وجود حاكم عراقي مفتول العضلات، واسمه صدام حسين، لا يقل عنادا ودموية عن الخميني، لما تجرع الخميني كأس السم، ولما مات وفي نفسه حسرة احتلال العراق، ولكان الاقتتال المذهبي الذي تشعله اليوم دولة وريثه الولي الفقيه في العراق وسوريا ولبنان واليمن قد اشتعل فيها وفينا من أكثر من ثلاثين سنة.

ولأن الخميني، وكلَّ حاكم مثله، هو إبن شعبه وليس أباه، ففي قناعتي أنه لا يتحمل جريرة الحروب المدمرة التي أوقد نارها، بل تتحمل وزرَها كلـَّه الغالبيةُ العظمى من الجماهير الفارسية التي آمنت به، وحملت أراءه ومبادءه وأفكاره في شرايينها، وما زالت، حتى بعد موته بعشرات السنين، تواصل حروبه المدمرة في أكثر من مكان، وأكثر من زمان..

وحين غزت الجيوش الأمريكية العراق، هلل لها وريث الخميني، وأمر جميع خدمه ومواليه وأتباعه العراقيين والإيرايين بدعمها وإنجاح احتلالها، برغم ادعاءاته المتكررة بعدائه لقوى الإستكبار العالمية، وفي طليعتها (الشيطان الأكبر).

ومن يومها والعراق يتكسر ويتمزق ويتشظى ويغرق في دماء أبنائه، شيعة وسنة، على أيدي الحرس الثوري ومخابرات الولي الفقيه ومليشياته العراقية المولودة في أحضانه الدافئة.

وكما فعلت تدخلات النظام الإيراني بالعراق، فعلت الشيء نفسه بسوريا. فقد ألقى الملالي بكل ما لديهم من قوة ومن رباط الخيل ليضمنوا بقاء نظام الغدر والقمع والقهر والقتل والاعتقال والاغتيال، من أيام الأب الراحل وإلى أيام الوارث الأكثر دموية من أبيه.

ولولا دعمهم غير المحدود، حتى وهم يعرفون، أكثر من غيرهم، أنه نظام فاسد ومارق وشرير ولا علاقة له بدين ولا طائفة ولا بشرية، لكان تنازَل عن بعض همجيته، من أول أحداث درعا قبل أربع سنوات، ولاستمع لصوت الجماهير التي انتفضت مطالبة بالعدالة والحرية والكرامة وليس بأكثر من ذلك، ولما تجرأ على قصف مسيراتها السلمية بالمدافع، ثم بالبراميل المتفجرة والصواريخ والغاز السام، ولما كلف الشعبَ السوري مئات الآلاف من القتلى، ومثلَها من المشوهين والمغيبين والمهجرين، ليس من معارضيه السوريين وحدهم بل من أبناء طائفته ذاتها، ومن مناصريه جماعة حسن نصر الله والمليشيات العراقية المتطوعة لحراسته، ولكان قد حفظ حمص وحماة ودرعا وحلب ودمشق من (خراب البيوت).

وهاهم، برغم كل خساراتهم وخساراته، ما زالوا مصرين على أن يَضُخوا له الأسلحة والمقاتلين، بلا حدود، وينفقوا عليه بلا حساب من أموال الجماهير الإيرانية العريضة، ليمنعوا سقوطه، ويَحُولوا دون عودة الأمن والأمان والعدل وسلطة القانون إلى سوريا التي لم يبق من كيان دولتها شيء.

وفي لبنان، من أوائل الثمانينيات، وباسم المقاومة والممانعة، أنابوا عنهم حسن نصر الله باغتيالاته وغروره وعنجهيته وتعاليه الشعب اللبناني كله، لكي يعبث، لحسابهم، بأمن الوطن الجميل، ويجعله بلد مقابر وحواجز ومخازن سلاح ومزارع حشيش.

وفي فلسطين أيضا، تغلغلت أصابع وكلائهم فأشعلت نيران المذابح “الوطنية” الفلسطينية بين حماس ومعارضيها، وتسببت في خراب غزة ودمارها عشرات المرات.

وهنا نصل إلى خلاصة القول. إن نظام الملالي في إيران ليس هو الولي الفقيه، ولا حرسه (الثوري) ومخابراته فقط، بل هو (الجماهير الإيرانية العريضة) الصارخة الهاتفة بحياته، والتي تظل تطالبه بمزيد من ظلم ذوي القربى في الدول القريبة من حدودها والبعيدة، والتي تزغرد وتطلق الأعيرة النارية فرحا بنجاح أبنائها (المجاهدين) في قتل ما تيسر لهم قتله، وفي هدم ما استطاعوا من المنازل الآمنة، في سوريا والعراق واليمن، على رؤوس أطفالها ونسائها وشيوخها، حتى وهم مسالمون وعزل ولا ناقة لأحد منهم في معسكر العنف الطائفي الفارسي، ولا جمل في الجبهة الأخرى التي تقاتل الظلم والغزو والاحتلال.

ولو كان استعمار هؤلاء الملالي متحضرا يجود على مستعمراته بالفنون والأداب والعلوم، ويُعلم أبناءها الاختراعات الجديدة والأنظمة المتطورة في الاقتصاد والزراعة والطب ومناهج التربية والتعليم، لكانت مرارته أقل وأخف. ولكن استعمارهم أعمى، متشبث بعقيدة وأفكار وعادات وتقاليد متحجرة موروثة من قرون، ومولع بإثارة الأحقاد النائمة، وتمزيق وحدة الشعوب، وخنق حرياتها، وتخريب أمنها واستقرارها، ونهب خيراتها، وقتل خبرائها وعلمائها وأخيارها الأكرمين.

فعلى من تقع الملامة؟ على حاكم سيء، أم على جماهير عريضة أكثر منه سوءا ؟ هذا هو السؤال الذي تبحث عن جوابه هذه المقالة، فهل من مجيب؟!