23 ديسمبر، 2024 5:23 م

شعرية الترجمة واشكالية ترجمة الشعر

شعرية الترجمة واشكالية ترجمة الشعر

تطرح هذه الدراسة ملاحظات اولية تتموضع بين القضايا النظرية لشعرية الترجمة والاسئلة الثقافية والتداولية لترجمة الشعر، وبالتالي فهي لن تقدم تشخيصاً لهذه التجربة كظاهرة ابداعية ومناقضة، ولا تجازف باصدار احكام حول قيمة ما انجز عربياً من ترجمات الى اللغات الاجنبية.
     [1]
للترجمة اهميتها التي لا تقل عن اهمية الكتابة الابداعية، ولها وظيفتها التي لا غنى عنها، باعتبارها احدى اخصب واوسع قنوات الاتصال بين الشعوب المختلفة، ورافداً ينقل خلاصة فكر وابداع شعب من الشعوب في العلوم والاداب الى شعب آخر، وما يترتب عليه من انتشار المعرفة واتاحة الاطلاع على مختلف تياراتها… وامكانية متابعة ما استجد من هذه التيارات.
وقد احسن الكاتب احمد امين عندما وصف من يعرف لغة واحدة فقط بانه يرى بعين واحدة بينما من يعرف لغة اخرى يرى العالم بأكثر من عين. وعلى هذا اضحى للترجمة اثراً كبيراً في اطلاع الشعوب على الثقافات والمعارف الانسانية في كافة انحاء العالم، وكذلك اضحت النافذة التي تم من خلالها تتأثر الثقافات بعضها ببعض، لأن النقل من الثقافات الاخرى ظاهرة تكاد تكون ملازمة للحضارات قديمها وحديثها.
فبعض الحضارات اخذت من الاخريات ما يناسب منطلقاتها الحضارية، والعرب قديماً اخذوا عن الرومان والهنود عن طريق السريان بادئ الامر، ثم اخذوا عن هذه الثقافات بطريق النقل المباشر فيما بعد، ثم اضافوا اليها من ابداعهم الكثير حتى اضحت لهم حضارة عظيمة نقلها عنهم الغرب في بداية عصر النهضة، حيث قام بحركة نقل وترجمة واسعة كان لها الدور الفعال والمؤثر في بناء حضارته وتفوقه العلمي في كافة الميادين.
ان اية امة لا تستغني عن النقل عن الآخرين مهما وصلت من الامساك بزمام الحضارة فلا تزال البلدان المتقدمة تنقل عن الآخرين من المسهمين بلغات اخرى، سواء كانت اللغات هذه من اللغات العالمية الاكثر شيوعاً او كانت هذه اللغات من اللغات الثانوية في مقياس الانتاج الفكري والعلمي.
    [2]
تنشط في الوطن العربي اليوم اتجاهات الى ترجمة الشعر العربي الى اللغات الاجنبية، كما تنشط النقاشات حول الاعمال الشعرية التي اختيرت للترجمة.
والاتجاه الى ترجمة الشعر العربي امر مطلوب لاسباب كثيرة، اهمها تيسير اطلاع الاجانب على شعرنا العربي، وهو افضل الاجناس الادبية، خاصة لو قام بهذه الترجمة من العربية الى اللغات الاجنبية، اديب عربي متمكن يحس الكلمة العربية ويدرك توجيهاتها، والاهم يعرف مشتقاتها وملابساتها، وغيرها من جوانب تخفي على غير العربي، حين يتصدى لترجمتها.
فمن نافلة القول، ان نذكر انه ما زالت لهذا النوع من ادبنا العربي، وهو الشعر مكانته العظيمة حتى وان قلل البعض من اهميته لحساب انواع اخرى من الاجناس الادبية. الا ان الشعر ما زال له بريقه الخاص في ثقافتنا، حيث نجد في المقابل من يرى ان الشعر كان ولا يزال (ديوان العرب) و (سجل حياتهم) و (وقائع ايامهم) في انتصاراتهم وهزائمهم…. وغير ذلك مما عني الشعر ويعتني بتسجيله قديماً وحديثاً.
فالشعر باقٍ ما بقيت للانسان عواطفه ومشاعره وليس لوجوده موضوعات تحفزك اليه، فكل شيء في الحياة يصلح موضوعاً للشعر حتى كان الانسان على رقة في الشعور وطبع في النفوس، وصفاء في الذهن، وشدة في الملاحظة، وقوة في البديهية، وحنكة في التجارب، وحكمة تحيط بذلك كله… ليصبح هذا الانسان شاعراً. فالعربي القديم كان ينطق بالبيت من الشعر حتى يؤنس نفساً نافرة او يعطف حبيباً هاجراً او يناجي الربوع والاطلال فتجيبه اثارها وتكلمه احجارها، وكأن لسانه قوة من السماء تلقنه ما يقول.
وبرغم كثرة موضوعات الشعر ووجود سمات الشاعرية عند البعض، الا انه قل ان تجد من يسمى شاعراً بحق كما يقل من لا يريد ان يكون شاعراً حتى بالباطل. ومقياس التمييز بين الحقيقي والمزيف هذه الاصالة التي تنبع من كل منهما. فالشاعر الحقيقي يتورى في حمى نفسه، واما الشاعر غير الحقيقي فهو الذي يملأ الدنيا ضجيجاً وحديثاً عن شاعريته المفقودة، لانه في الاصل يعيش في حمى غيره، معتمداً عليه، مقلداً له، وطبيعي الا يكون التقليد كالأصل أي حال من الاحوال.
ومن نافلة القول ايضاً، ان تقوم دولة الكلمة عند العرب منذ ستة عشر قرناً، ايام كان فيها شعراء حقيقيون لا مزيفون، شعراء الواحد منهم يماثل عصراً بأكمله وان يكون المجاز القرآني من جنس ما يتقنه هؤلاء الذين تربو على الكلمة الشاعرة، وان يكون اعجاز هذا الكتاب المبين في القول البليغ الذي لا يستطيع هذا الشعر العربي ان يبلغه بأي حال من الاحوال.
وكما يقال دائماً ويؤمن به، بأن الشعر العربي حين يبلغ هذه المكانة العالية من الشاعرية، وذلك بحفاظه على خصائصه، فانه يصعب وربما يستحيل نقله الى لسان اجنبي مثل بقية الاجناس الادبية التي تتيح سماحتها للمترجم فرصة التصرف اذا كان ضعيفاً في لغة وقوياً في اخرى.
وقد يكون المترجم للعمل الادبي ضعيفاً في اللغتين معاً فيلجأ الى الاحتيال على مغالبة الصعوبات في اللغتين بالحذف والاسقاط، وهنا يتحول العمل الادبي الكامل في يده الى مسخ او اثر، وهو ما نلحظه في بعض الترجمات المعاصرة، او قد يلجأ المترجم الى الحذف والاختصار، استجابة لدواعٍ كثيرة، منها الرغبة في الاختصار لذاته، ومنها ملائمة العمل الذي يترجمه للذوق الاجنبي الذي يترجم اليه، ومنها اعفاء قارئ الترجمة من تفصيلات يتصورها المترجم وحده، وهو ما نلحظه في ترجمة الاعمال الادبية العربية الى اللغات الاجنبية.
آليات النقل وخياراته، تطرح اسئلة واشكالات كانت وما زالت تسم خطاب الترجمة وتتحكم فيه بنسب تزيد او تنقص بحسب الهدف من الترجمة، وموضوع النص المراد ترجمته ومدى استعدادات المترجم نفسه بطبيعة الحال، اي لماذا نترجم، وماذا نترجم، وكيف نترجم، ومن يترجم، وبأي من النصين ينبغي الاهتمام بالأصل ام بالترجمة؟
وطبيعي ان هذه الاشكالية تزيد في النص الادبي الفني عنها في النص العلمي، لأن لغة النص العلمي في الاصل محايدة والتوازن موجود في معظم الحالات بين الاصل والترجمة، فالمضمون عبارة عن حقائق وقيم ثابتة لا تتغير بتغير لغة التعبير عنها. غير ان هذا التوازن يقل وينقص كلما دخلنا عوالم الفكر والفنون والاداب واغوار النفس. ذلك ان المعايير المتحكمة في لغة هذه المجالات مختلفة لغلبة ذات منشئ النص من جهة والخصائص الذاتية للغة والثقافة من جهة ثانية، ما يجعل نقل الانزياحات عن المعاني والمعجمية الثابتة والايحاءات والظلال والاجواء الدلالية والمعنوية والاثار الاسلوبية من لغة الى اخرى امراً صعباً جداً، ناهيك عن نقل الاحاسيس والمشاعر، لان كل هذه الامور ترتبط في النص الاصل وبالتالي في اللغة الاصل باجواء تعبيرية واسلوبية ونظمية ومقامات او سياقات خاصة يكاد ينحصر فهمها وتلقيها بشحناتها من التأثير في متقني اللغة الاصل بل وبالمنتمين الى الثقافة الاصل المتعودين على آليات التعبير وادواته وطرائقه في هذه اللغة التي قد لا يكون مطابقة تمام المطابقة بالضرورة لمثيلاتها في اللغة المستقلة. هذا مع اعتبار ما مفاده ان بعض اللغات تتميز عن غيرها بالشكل او الطريقة التي يرتب بها الكلام في بعض طرائق القول وفنونه كالشعر مثلاً.
    [3]
تتضاعف الصعوبة في ترجمة الشعر، حيث يكون المترجم مطالباً بان ينقل المعاني وظلالها، وهنا يصبح العمل الشعري المطلوب ترجمته في خطر مصدره عملية الترجمة نفسها. فاغلب الباحثين والنقاد الغربيين والعرب معاً يجمعوا على ان النص الشعري يبدي مقاومة وتمنعاً محتدمين على فعل الترجمة، بل ان لزوميته القصوى وانغلاقه من حيث المعنى والقصد الدلالي قد يكفان تعبيريته وشاعريته. وعليه يغدو ترجمة الشعر مغامرة لا بد لمن يجرؤ على خوضها ان ينطلق من احد خيارين: خيار الاستحالة الذي يحيل على اسس لاهوتي مُرهبٌ يسم هذه الممارسة بالتشويه والتحريف والخيانة ، وكأن الأثر الابداعي ينتمي الى عالم هرمي لا علاقة له بالواقع ويمتلك قداسة ولغزية متعاليتين على الفهم، ثم على الترجمة بعد ذلك.
وفي ضوء هذا التأثيم المطلق الذي لا يعير للتجارب والتحقيقات اهمية يتم الارتياب من نص المترجم مهما كانت قدرات صاحبه ومهاراته واللالمعية التي يشف عنها عمله على  مستوى الالمام باللغة والاحاطة بمقومات الجنس الادبي والاطلاع على المرجعيات النظرية والجمالية، الامر الذي يفيد بأن القصيدة التي تتقاطع في احدى لحظات سيرة تلقيها مع قدر الترجمة، تقع تحت طائلة البلبلة… ويجعل المترجم في حل قسراً من المسؤوليات التي تقوم عليها ممارسته من حيث:
– مسؤولية فنية تجاه النص الشعري.
– ومسؤولية اخلاقية تجاه القارئ.
– ومسؤولية فكرية وحضارية تجاه التاريخ.
الخيار الثاني، هو خيار الاماكن الذي يرجع صعوبة الترجمة الى خطاب القصيدة نفسه بما هو اشتغال في الاساس ضمن سجل الكلام وانتصار لبلاغة الدوال والاشكال على ابلاغية المدلولات والمضامين ونحت للأخيلة والمجازات التي قد يخفت بهاؤها عندما تنقالُ او تُقالُ في غير اللغة التي استولدت واستوت في رحمها، ومن ثمة فان المترجم مؤرق طي هذا الخيار بالبحث عن معادل لا هو بالشكلي الصرف ولا هو بالدينامي في المحض، ينصت الى المكونات والقيم الشعرية داخل القصيدة متلبسة بعمقها الوجداني وموقفها الوجودي ورؤية مبدعها الى العالم ومشخصة في كلمات وعبارات وجمل ومعجم لا يمكن للترجمة ان تنجز في غيابها مع ما يقتضيه ذلك من جهد تأويلي يتلمس للنص فرادته ووقعه الجمالي المفترض طي اللغة التي نقل اليها وتمثلاً للابعاد المحلية والكونية للشعرية التي تشكلت في احضان هذه اللغة.
لا بد من الاشارة هنا، وهي مترتبة عن الخيار الاول مفادها: ان خيار الاستحالة يغذي ظاهرة الاستسهال في ترجمة الشعر، ويضفي على هذا النشاط قدراً من الارتجاج بل التسبب، لانه يجيز امكانية وجود نسخ متعددة ولا متناهية لأصل واحد ولا يستطيع القارئ ان يعتد باحداها دون الاخرى، ويفتح ايضاً الباب على مصراعيه امام قناصي الغنائم الرمزية والمادية.
ولقد انتهى الينا في وقت سابق، كيف انخدع القارئ العربي وهو يعتقد بايعاز من المترجم والقراء، ان الكتاب الذي صدر بالعربية محتوياً الاعمال الكاملة للروائي الروسي دوستوفيسكي، كان في الواقع ترجمة مختزلة لبعض نصوصه ليس الا.
وهكذا يفقد المترجم سلطته الاعتبارية والمرجعية ضمن المشهد الثقافي بقدر ما سيفقد المتلقي ثقته في معارفه المزعومة حول العالم المتخيل لشاعر فرنسي او اسباني او الماني… ما لم يقرأ ابداعاته في لغة كتابتها.
فلو كان الشاعر الانكليزي تبنسون يعلم انه يأتي من يترجم للعربية عبارته السشعرية:
Men rise on stepping stones of their dead souls.
 ترجمة حرفية فيقول: ان الناس يصعدون على درجات من نفوسهم الميتة. لأقلع هذا الشاعر عن الكتابة بقية حياته، لأن هذه الترجمة لو قيست بمقياس التذوق الفني لوجدنا كلماتها غامضة او لا معنى لها، وعلى هذا فأن اقرب معنى الى نفس قائلها هو: انما المرء يرتقي للمعاني سلماً من مرارة الاختيار. فقد كان المترجم العربي ان يفرغ في المعنى روح الاديب الانكليزي وشعوره باللفظ الملائم، والمجاز المطابق، والنسق المنتظم، ولا يخرج عن هذه المراحل الا وهو على يقين من ان كاتبها لو كان قد كتبها لما كتب بأفضل من ذلك الى آخر ذلك.
 ان الشعر، واحد من الانواع الادبية التي تتجلى فيها خصائص الشاعر ومنها النفاذ الى ما وراء المحسوسات من معانٍ انسانية واستلهام ما يعتمل في النفوس والقلوب من مشاعر ووجدانيات، ولذلك يصعب وتتعذر ترجمته ان لم تستعضل وتستشكل وقد تستحيل.
 وفي اطار ذلك، ذهب الجاحظ فرآى ان فضيلة الشعر مقصورة على العرب فيستحيل ان يترجم، والسبب هو ذلك الوزن المعجز الخاص بالتفعيلات التي تدخل بحور الشعر باقدار، حيث يقول: “ان الشعر العربي لا يستطاع ان يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى ترجم تقطع نظمه وذهب حسنه وسقط موضوع التعجب فيه” لأن جمال الشعر شكله.
 ان تأكيد الجاحظ على الجانب الشكلي في الترجمة وهو الاهتمام بنقل النص الى اللغة المنقول اليها يحتم ان يكون الذي يقوم بالترجمة اعلم باللغتين المنقولة منها والمنقول اليها حتى يكون فيهما سواء.
 ان الجاحظ لم يقف عند هذا الحد بل الزم المترجم بمعرفة ابنية الكلام وعادات القوم واسباب تفاهمهم، ولا بد للترجمان ان يكون بيانه في الترجمة نفسها وان يكون عمله على المعرفة نفسها.
 الا انه في صدق طرح الجاحظ نظر. فاذا ذهبنا مذهبه لحجر علينا ترجمة الشعر العربي خاصة بل والشعر عامة. لان لكل لغة موازينها وموسيقاها، وهو بدوره حرمان كبير للتراث الادبي من كنوز شعرية يجب الا يحجر عليها بالترجمة.
 لكن برغم استحالة تطبيق هذا الرأي للجاحظ، فان هناك من تأثر به، والا فما معنى عدم عناية العرب الاقدمين بنقل التراث اليوناني من الشعر، عنايتهم بنقل الفلسفة والعلوم؟ وما معنى عدم اهتمام عصر ازدهار الترجمة في القرن التاسع عشر بترجمة الشعر العالمي. وحتى لم يتجه اليه المترجمون من الادباء بدلاً من ترجماتهم للتاريخ والاجتماع والعلوم العسكرية وغيرها؟
 وما معنى- رأيي الشخصي- قد يستطيع المترجمون البارعون مغالبة صعاب ترجمة المؤلفات النثرية من لغة الى اخرى، ولكن صعوبة الترجمة او استحالتها تظهر في نقل الشعر مهما تقاربت اللغات من الأصل والنشأة. الا يعني هذا التأثر بالنظرة الجاحظية القديمة.
 ان هناك من النقاد والمؤرخين من اعتبر الجاحظ من اوائل الرواد العرب الواضعين لقواعدها – قواعد نظرية الترجمة- وهو الذي سجل افكاراً عن هذه العملية، وحدد شرائطها واوضح نوعية مادة الترجمة وشخص المترجم.
 وتأملات الجاحظ في الترجمة من المكونات الاساسية لنظرية الترجمة عند العرب. فالنظرية في العرف العلمي اعراب عن مذهب عام مصحوباً ببعض الحقائق من ذلك المذهب. وهذا ما تنطبق عليه اراء الجاحظ في مجال الترجمة التي عرض لها في كتابه الشهير (الحيوان) وجاءت متفقة مع مفهوم النظرية وتعريفها عند المترجمين.
 ويستمد الموقف التأملي والممارس من جانب الجاحظ قوته من الموقف النظري من اللغة وهو العناية بالشكل اللغوي.
 من هنا ايضاً اعتمدت نظريته في الترجمة على استيعاب كامل للمادة المترجمة. ومن هنا يكون سهلاً اخضاعها لفكرته ولشكل اللغة واطارها العام وتراكيبها. ولذلك تتضح الخطوط الرئيسية لنظريته من خلال التأكيد على الاتجاه النقلي الذي يدفع المترجم الى التقليد بأصول اللغة المنقول اليها واللغة المنقول منها.
 لكننا نجد في المقابل، ان ترجمة الشعر العربي ليست مستحيلة، وان كانت صعبة وشاقة واتعب من النظم نفسه. لأن الشاعر ينتقل مباشرة من ذات نفسه الى ذات قلمه بينما المترجم ينقل من لغة تخالف لغته، فجهده الاول تطويع اللغة لتقبل المعاني الاجنبية قبولاً لا يظهر فيه شذوذ، وجهده الآخر اندماج فيمن يترجم عنه فيشعر بقلبه وينظر بعينه وينطق بلسانه، ومن هنا تأتي الصعوبة.
 وهنا يجدر السؤال: وما الذي يجعل ترجمة الشعر العربي صعبة وشاقة؟
 وللاجابة على هذا نشير الى عناصر كثيرة، فالى جانب عنصر المعنى وظلاله هناك عناصر اخرى كانت في الاصل تبعث الاعجاب في نفوس قراء الشعر بلغته الاصلية، وهي مما لا يمكن نقله، لانها ترجع الى ملابسات لا تعدو ابناء اللغة الاولى، حتى شاعر الهند (طاغور) الذي كان يترجم شعره الى الانكليزية، يقرر ان قوة البيان لا تكون واحدة في اللغتين، لأن لكل كلمة جواً خاصاً بها في لغتها، واذا امكن ترجمة تلك الكلمة فان هذا الجو الخاص لا يترجم، واذا كان المُترجم شعراً فان موسيقى الشعر بلغته الاصلية لا تترجم حتى لو كان مترجمها هو صاحب الشعر نفسه.
 يفهم من ذلك، ان لكل مجتمع موسيقاه اللغوية التي تحكى مزاجه وثقافته، كذلك توجد موسيقى لغوية لكل شخص بل لكل موقف انساني يواجه هذا الشخص، فالموسيقى اذن، ليست مخرجاً من المخارج، وليست ضم حرف الى حرف، وليست كلمة تنتظمها عبارة ولكنها الطابع الانساني العامل اولاً والطابع القومي ثانياً، والمضمون الثقافي ثالثاً، وشخصية الشاعر رابعاً. ولذلك، كان لزاماً على كل من ينقل الشعر الى لغة اخرى ان يدرك الفوارق بين موسيقى اللغتين.
 وقد يكون للموسيقى مطلب اساسي بالنسبة لترجمة الشعر العربي الى غيره من اللغات، حيث يتميز بموسيقى ووزن وقافية خاصة. ولضمان الالتزام بهذه الخصائص يجب ان يكون مترجم الشعر في الاصل شاعراً، وذلك، لان الشاعر اقدر من غيره على تأدية ترجمة الشعر اداء مقبولاً وهو بلا شك اقدر على تقمص شخصية زميله الشاعر، فليس هناك شك في ان فساد ترجمة الشعر يرجع في الاساس الى ان الذي يتصدى لهذه الترجمة ليس في الاصل شاعراً يحس الكلمة التي اختارها صاحب النص الاصيل كما يشعر بالجو العام للقصيدة بكل كلماتها ولا يفوته الاهتمام بالموسيقى والوزن وغيرها من جوانب يعرفها المترجم اذا كان في الاصل شاعراً.
     [4]
 من المؤكد اننا ننفذ عبر القصيدة الشعرية الى عدد لا حصر له من النصوص الغائبة الواردة من لغات وثقافات متعددة ومختلفة… والشاعر سواء كان عربي ام اجنبي قد يطلب الترجمة بحصر المعنى ويتكبد مشقتها ووزرها رغبة منه في تعريف القارئ بمصدر من مصادر ذائقته او علامة دالة داخل السلالة الشعرية التي ينتسب او اشتراكه في تمّلي نموذجاً من مختاراته بحيث لا يمكنه في الغالب الا ان ينتقي نصوصاً يجد بها.
 بيد ان هذه الترجمة العاشقة، كما هو ملاحظ، عادة ما تختفي بالنص المنفرد، ونادراً ما تمتد الى متن الديوان برمته او تغطي الاعمال الكاملة لشاعر معين، ولا يتسع افقها كذلك لمشاريع الانتولوجيات الخاصة بالتجارب العربية منها والاجنبية التي يحتكم واضعوها الى مقاصد ومقاييس موضوعية نسبياً من نحو التوثيق في رصد الشعراء والتمثيلية في اختيار النصوص المرشحة للترجمة.
 وهنا تضاف الى فعل الترجمة الذي يرتكز موضوعه على نقل التجربة الوجدانية والفنية للنصوص وظيفة موازية تتجلى في المعرفة الضمنية التي يمكن ان يشي بها حول الشعريات والحساسيات الجمالية والاذواق والذهنيات ايضاً.
 وحتى يتقصد الشاعر هذه المآرب ويعطي لممارسته بعداً احترافياً، ليس بالمعنى التجاري. لا بد لعمله كمترجم ان يكون محتضناً من قبل هيئات ثقافية او بحثية وطنية مشهوداً لها بالجدية والكفاءة وتحظى اعمالها بالمصداقية والاعتراف ويكون اهتمامها بالترجمة غير منحصر فقط على جوانبها التقنية والمهنية وانما وعياً كذلك بدورها الجوهري والحاسم في بناء مشروع حضاري مجتمعي يشيد صرحه المؤمل على تطوير الانتاج الفكري والفني واثرائه واشاعة ثقافة الخلق والتأمل والتنوير واستيحاء منابع الابداع الانساني اياً كانت اللغة والقومية والجغرافية.
ان مأسسة ترجمة الشعر تتخذ على الاقل مظهرين اثنين:
1- مظهر الجهة المعتمدة والمحكمة التي تتولى مهمة التصديق وتضمن للقارئ حداً ادنى من الوفاء والامانة والتجويد في ما يطلع عليه من ترجمات وتفصل في الجدل الذي قد يشتعل في بعض الاحيان بين المترجمين والنقاد بصدد قصيدة معينة او سطر شعري او صورة بيانية، وذلك استهداء برأي ومشورة مجموعة من اللجان المتخصصة التي تتكون من نخب من الخبراء والمثقفين والمبدعين.
2- مظهر الجهة الحاضنة والمستثمرة التي توفر المناخ المناسب والبيانات الاساسية والامكانيات الضرورية لمشروع بهذه القيمة الحضارية.
[5]
 ان بعض اللغات تتميز عن غيرها بالشكل او الطريقة التي يُرتب بها الكلام في بعض طرائق القول وفنونه، كالشعر مثلاً. هنا يستعصي الشكل في خطاب الترجمة احياناً كثيرة، ويتمنّع ايما تمنع وذلك لأن تلك الاجواء والاساليب والايحاءات قد عزلت عن الظواهر اللغوية التي تكيفها، فيكون فقدان الشكل في الشعر العربي مثلاً وهو الوزن والقافية مع انهما ليسا خاصية عربية خالصة مسقطاً للترجمة ومبطلاً لها، لانه لو حولت حكمة العرب لبطل المُعجزُ الذي هو الوزن. مع انهم لو خولوها لم يجدوا معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم يؤدي هذا بمنشئ خطاب الترجمة الى تبني احد خيارين اثنين، فأما التصرف واخفاء مسحة جمالية قد تبعد الترجمة قليلاً عن الأصل، لكنها تتماشى مع الضرورات الجمالية الفنية للغة الوصول. واما التمسك بحرفية الأصل وبالتالي انتاج نص ليس له اي بعد فني جمالي في لغة الوصول بل قد لا يكون له التأثير نفسه وربما لا يكون له معنى ايضاً. وبذلك يضيع رونق النص وبهاؤه ويفقد في ترجمته السمات والمقاييس الفنية التي اعطته شرعيته في لغته الاصل.
 من هنا جاءت عبارات من قبيل (الترجمة خيانة) والحق انه مهما كان خيار خطاب الترجمة فستكون النتيجة حتماً خيانة لأحد الطرفين، الاصل او الترجمة. لكنها ستكون خيانة جميلة بتعبير فولتير المترجم الانيق الذي نسمي كل ترجمة من ترجماته الجميلة الخائنة Infidel la belle، اذا كان ناتج الترجمة نصاً جميلاً. والحقيقة ان الشكل في خطاب الترجمة حتى وان لم يتمنّع وانصاع الى حد كبير فان كمال الترجمة ووصولها الى مرتبة الاصل في هذا المجال تبقى امراً بعيد المنال.
 مما تقدم… نجد ان ترجمة الشعر العربي شاقة وصعبة ولا بد من المتصدي لها ان يكون اهلاً لها، وذلك في الالمام والاتقان للغتين وقبل هذا ان يكون متذوقاً لما يترجم متفهماً لشخصية الشاعر ورؤياه الخفية قبل الظاهرة. ولعل هذا يجعل المترجم للشعر العربي خاصة يأتي اختياره لما يترجم من نصوص على اعتبار ان هذا الاختيار تنطوي عليه امور عديدة منها ما هو خاص بجودة ما يختار من الشعر ومنها ما يتعلق بالشاعر نفسه حيث يكون على مستوى هذا الاختيار ولا ينبغي اختيار شاعر لا يزال في طور البداية، فاننا هنا نضره اكثر مما نفيده، ومصدر الضرر هنا احساسه بانه اصبح شيئاً مذكوراً والدليل ترجمة شعره الى اللغات العالمية، كما نسيء الى ثقافتنا العربية بوجه عام حيث نختار من الاعمال الشعرية فيها اعمالاً غير ناضجة… وكأننا نعتمد ان نقدم  للعالم اسوأ ما لدينا.
 من هنا، نهيب بالذين يقومون بترجمة الشعر العربي ان تكون اختياراتهم على مستوى يليق بتقديمها كنماذج وامثلة الشعر الذي له تاريخ لا ان تكون بمثابة المعاول التي تهدم هذه الثقافة في اساسها وهو الشعر.

المراجع
المراجع التي استعنا بها اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء لما ورد في دراستنا.
1- ابراهيم صحراوي- مفتاح الولوج الى عوالم الآخر، الترجمة بين الامانة العلمية والعاطفة الادبية والنقل والاقتباس، مجلة النور (لندن)، العدد 147 (ايار، 2006).
2- احمد النجدي- حركة الترجمة العربية بين الواقع والطموح، مجلة النور (لندن)، العدد 155 (نيسان/ 2004).
3- سامح كريم- الشعر العربي بلسان اجنبي، جريدة الاهرام (القاهرة)، عدد يوم 10/ تموز/ 2001.
4- هشام العلوي- شعر الآخر في لغة الضاد، ملاحظات حول الترجمة، مجلة النور (لندن)، العدد 170 (تموز/2005).  

 [email protected]