23 ديسمبر، 2024 9:35 ص

كم يصبح الروتين مملاً عندما يعاد مراراً وبصورة مستمرة , كذلك هوالكلام كلما تكرر يبدأ بفقدان اهميته رويداً رويداً , حتى وأن كان جميلاً فكثرة سماعه بنفس اللون والطعم يؤدي الى تناقص جماله تدريجاً او انعدامه أحياناً , أما السياسة فحدث ولا حرج فالحديث فيها من اكثر المملات ولكن كيف السبيل وقد قيدنا بشبح السياسة التي تسلل الى افواهنا دون أذن, حيث اصبحت السياسة جزء لايتجزء من كلامنا وتكاد لاتفارقنا حتى في أحلامنا وبقي الكلام في السياسة يصطحبنا في البيت وفي العمل والسفر وفي كل مكان , ولايوجد مكان يخلو من الحديث السياسي او المشاكل السياسية .
فعندما اجلس في المقهى اشاهد العجب العجاب حيث لايخلو كلام الزبائن من السياسة حتماً وبكافة اعمارهم ,صغيرهم وكبيرهم , بل حتى صاحب المقهى (الكهوجي) لايكتفي يوماً برد السلام علي دون ان يتبعه بجملة (شخبار الحكومة) , حتى جن جنوني وأنا استمع لأحاديث الجالسين العقيمة , الا انني عندما تسللت اسماعي اليهم وركزت قليلاً في قولهم علني استفيد من خبر طائر او معلومة جديدة لم اسمع بها سابقاً , خصوصاً ان المتكلمين كانو من كبار السن الذين ( أكل الدهر عليهم وشرب ) ومن منطلق ( أكبر منك بيوم أفهم منك بسنة ) استسلمت للأصغاء اليهم وتوقفت اصابعي عن تحريك ملعقة الشاي كي يتسنى الي معرفة ماطرحوه من مشكلة سياسية جديدة تضاف الى المشاكل التي تصطنع من بعض المسؤولين السياسيين , ومثيري المشكلة هم من الكادحين البسطاء اصحاب وجوه اخفى معالمها تجاعيد العمر اعتادو على ارتياد هذا المقهى ليتناقشو في مشاكل البلد حتى دأبو يومياً بتشكيل برلمان جديد بطريقتهم الخاصة ويقومو بتعيين وزراء افضل بحسب اعتقادهم . حيث لاتفارق السنت المجتمعين كلمة (المفروض) , لكن برلمانهم هذا ومخططاتهم سرعان مايتطاير ويتهاوى مع كلمة ( في أمان الله ) التي ترمز الى الرحيل حين تنتهي مدة جلوسهم ويرومون التوجه الى بيوتهم محملين بالامنيات والاحلام , حتى داهمتني الرغبة بالذهاب الى البيت وقدتأخر الوقت وأنا غارق في دوامة من اليأس الممزوج بالامل , ولشدة اندماجي بحديث (نواب المقهى )فقد خرجت والافكار تداعب مخيلتي حول حديثهم الذي تكللت فيه الفطرة والبساطة التي تنم عن حرقة وحسرة داخلية عن مشاكل البلد وما آلت اليه الظروف حيث امتزجت في كلامهم السخرية  والجد والضحك والحزن, ولم اتناسى هذا الذي شغل تفكيري واخفى تركيزي وانا خارج حتى قطع هذه (الشوشرة الفكرية) صوت صاحب المقهى مهرولاً نحوي يقول ( يمعود هاي علاكتك نسيتها ) .
فور وصولي الى البيت جلست مع اهلي على مائدة الطعام بعد يوم شاق طويل محمل بالافكار المضنية , وعندما بدأت بتذوق الطعام صرخ أخي الصغير فجأة , وكنت اضنه لايحب السياسة لأنشغاله بالرياضة لكنه قال بصوت عال(هاي شنو ) ارتبكت قليلاً بعد غفلتي وأنشغالي بالطعام , راغباً بمعرفة سبب صيحته التي افقدتني لذة الاكل حتى تبين لي ان سبب صدمته نجم عن قراءته لأحدى المانشيتات السائرة ببطء اسفل الشاشة وكان خبر يدعو للأسف والدهشة , بعدها تحولت مائدة الطعام لطاولة( غداء عمل ) كما تسمى وبدأت التعليقات على هذا الخبر تأخذ وقتاً اكثر من وقت الاكل ليتمكن هذا الخبر من احتلال المائدة وسرق الشهية ليحولها الى شهية سياسية .
هكذا اذن تحول المجتمع العراقي الى مجتمع سياسي بعد سقوط النظام واصبحت الاحاديث السياسية تداعب افكارنا وتستحوذ على اغلب أحاديثنا ’ لكن المفارقة هي ان الشعب العراقي اصبح شعب سياسي والمسؤولين ليسو بسياسيين , أي لم يملكو المعنى الحقيقي للسياسي المحنك .