الصراعات القائمة الآن في العراق، بين الدولة و اللا دولة، بين الجزء والكل، بين العراق واللا عراق، بدأت تستفحل وتبرز للواجهة، كقضية أساسية، من القضايا التي تهدد الكيان العراقي، بوحدته وتاريخه وشعبه؛ فما هي أسباب هذه الظاهرة، التي جعلت من العراق بلد الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، يعيش صراع الوجود في القرن الحادي والعشرون؟!
الإجابة عن هذا التساؤل، لن تكون كافية بهذه المقالة وبكلماتها المعدودة، بل يحتاج ذلك لمجلدات وباحثين ليدرسوا الماضي بسلبياته، والحاضر بهمجيته، والمستقبل بتحدياته، فليس سهلا ولا منطقياً، أن تكون أرض الرافدين، التي كانت في ما مضى سيدة العالم، والتي منها انبثقت القوانين والكتابة قبل آلاف السنين، مهددة اليوم بكيانها، و خالية من أمثال أو بقايا أولئك الرجال، الذين صنعوا حضارتها.
بعيداً عن المؤامرات الدولية، والتدخلات الخارجية، التي تتبنى هدم الكيان العراقي، سنقتصر في حديثنا هذا، على جانب واحد، وهو قضية قتل الروح الوطنية لدى الفرد العراقي، ولنقف على بعض أسبابها الداخلية فقط.
باسم الوطن، خاض العراقيون حروباً متعددة، لم يجنوا منها سوى القتل والخراب والجوع، فزادت مأساة الوطن أكثر فأكثر، وخلّفت تلك الحروب أراملاً وأيتاماً وجرحى ومفقودين، لايعلم عددهم إلا الباري (عز وجل)، وكل ذلك كان باسم الوطن والوطنية، وكأننا نحن الوحيدون الذين نملك وطناً، من بين تلك الشعوب الآمنة المطمئة في أوطانها!
جيوش الفقراء والمعدومين، والأرامل والأيتام من مختلف مكونات الشعب العراقي، يمثلون جزءً كبيراً من هذا المجتمع، وربما يكونوا هم الأغلبية، فهل يكون لرغيف الخبر الذي يأتيهم باسم الطائفة أو الفئة، دور في نسيانهم لوطنيتهم ووحدتهم؟
قد يقول قائل: أن الفقراء هم الأكثر وطنية، من بين طبقات المجتمع الأخرى -وهذا صحيح فعلاً إلى حد ما- لكن عملية التجويع والإهانة باسم الوطن، ربما قتلت وستقتل كثير من الروح الوطنية لديهم، خاصة وأن هذه المرحلة التي يعيشها العراق، نرى فيها أن التعامل مع الفرد العراقي، قائم على أساس الفئة أو الطائفة أو القومية، وإلى أخره من هذه المسميات.
لحظة تأمل ربما تكون خادعة أو صادقة؛ لكنها حوت سؤالاً، ربما يكون قد خطر ببال كثير من العراقيين، وهو لِمَ نلوم الشعب؛ ولا نلوم الذي جوعهم وأذلهم وسرقهم؟ كيف نريد من الفقير الذي لايملك داراً تأويه؛ أن يكون وطنياً وينسى جوعه وألمه؟ كيف لهذا الفقير أن يتأقلم مع حر الصيف، وبرد الشتاء؟ وإذا ما خرج أطفاله حُفّات؛ فكيف نقنعهم أن الوطن الذي جفاهم وعاندهم وغيبهم؛ هو أغلى من أنفسهم؟
عندما يُكرم الإنسان، باسم طائفته أو قوميته أو حزبه، وفي قبّال ذلك انسان آخر يجوع ويهان، ويترك يصارع مصيره وأيضاً بسبب انتماءه، وخلال كل هذين الاسلوبين من التعامل مع الفرد، سواءً بالسلب أو الإيجاب، نرى غياباً تاماً للوطن، فليس من معنى يترجم هذه الانتقائية في التعامل، سوى أنها قتل لروح الدولة وكيانها، لدى الشعب أو المجتمع، وبذلك يقوم الفرد بالدفاع عن رغيف الخبر الذي يأتيه باسم طائفته، أو قوميته أوحزبه، وينسى وطنه!
نعيش اليوم أزمة ضياع الوطنية، وعلواً للحزبية والطائفية والفئوية، وإن هذا الاتجاه من العلاقة بين الوطنية وبقية الهويات الفرعية، لابد أن تكون بالعكس تماماً عن ما هي عليه الآن، أي أن تكون الوطنية هي المظلة الكبيرة، والدائرة التي تحتوي بقية الدوائر، ومهما كَبرت الفروع فلا بد للأصل أن يكون أكبر وأهم، من تلك الفروع، وكل هذا لايكون على يد رجال الصدفة والأزمة، بل يحتاج لرجال دولة، يستطيعون أن يعبروا بشعبهم وبلادهم إلى شاطئ الأمان.