22 ديسمبر، 2024 10:21 م

شط العرب .. جندي لكل الحروب

شط العرب .. جندي لكل الحروب

ما من نهر تعرض للإهمال وتهميش المكانة والتلوث مثل شط العرب . فمن الغوارق التي لم ترفع منذ ان انتهت حرب الثمانينات ، الى اللسان الملحي الذي أحال مياهه العذبة الى مالحة مجّة ، ومن مياه المجاري التي تسكب سمومها في شارع الكورنيش الى ما يفرغه كلا مينائي المحمرة وعبادان من مواد كيميائية !
شط العرب .. جندي استثنائي في كل شيء .. وادع هادئ . لم ينقطع يوما عن ممارسة رياضته المحببة الى نفسه : الاندفاع باتجاه الجنوب .. ابدا باتجاه الجنوب . وحين اندلعت حرب ثماني السنوات استدعي للخدمة العسكرية وزج به في أتون معارك طاحنة اتخذت منه ومن المدينة مسرحا لقعقعة السلاح فيها . لم يتخلف يوما واحدا عن القتال على الرغم من بغضه الشديد لكل ما يمت للقتل بصلة ، وللجراح التي أثخنت جسده الفضي الملتوي في رشاقة ، على الرغم من ان صناع الحروب حلقوا شعر رأسه الى الصفر وعفروا بزته الخاكية بالأتربة والأوحـال والدهون داسّين في ثناياها أكاليل من العوسج والعاقول وشظايا الحديد وفوارغ القذائف الصاروخية والرصاص . وحين اندلعت حربا الخليج الثانية والثالثة كان له نصيبه منهما اذ استدعي للخدمة من جديد فلاقى الأمرّين ، ليس من أهوال الحرب وحسب ، بل من تكليفه بما لايطيق و( تكديشه ) بمهام اخرى لا تقل قذارة عن فعل الحرب ، كتهريب النفط عبر ضفتيه ، وتهريب هياكل السيارات ( المفصخة ) وكل ما يمت للممنوع بصلة .
ها هو شط العرب في يومنا هذا تتناهبه حروب المياه وتنخفض مناسيبه بسبب سدود الجيران وتهجر أرصفة موانئه بسبب الحروب وتغص أعماقه بغوارق السفن المدمرة او التي احتجزتها الحروب . لقد كان نهرا عظيما عملاقا جاء كمحصلة طبيعية لتزاوج دجلة والفرات . كانت تأتيه كل سفن أعالي البحار حتى اعتاد أهلها سماع نشيدها الشجي وهي تعلن الرحيل او القدوم .وإذا به اليوم سطح مائي غائر تطفو على أمواجه الكالحة ـ بدلا من النوارس ـ زجاجات البلاستيك والمرطبات وإطارات المركبات وأكياس القمامة ( شانقات السمك ) ، وبعد ان كان ملجأَ لهواة السباحة أمسى قناة قذرة من قنوات الصرف الصحي متخما بسموم البزل ونفايات الصناعة والديناميت والبارود .
ومع ذلك وفي الأيام الخوالي كان النهر الكبير شاهدا على ساعات مرح وابتهاج ففي الحادي والعشرين من كل عام ، في يوم النوروز، اعتاد أهل البصرة الاحتفال بهذا اليوم .. يوم (الكسلة ) على حد تعبيرهم حيث كان شاطئ النهر يغص بآلاف المحتفلين ممن كانوا يستقلون قوارب بخارية تمخر بهم عباب الموج صادحين بالغناء الشجي في حين تفترش العائلات عشب الضفاف متناولين ألذ أصناف الطعام ، بينما تنشغل بعض الفرق الموسيقية بتقديم أعذب الألحان الفولكلورية من أرخم الحناجر .
الأنهار هي للمدينة بمثابة الشرايين للجسم يكاد الواحد منها ان يعد كائنا بشريا في حركتها اليومية الدؤوب ،فالمد والجزر يماثلان الشهيق والزفير الذي يمارسه الكائن الحي على مدار الثواني . والنهر كالإنسان فهو مليء بالعنفوان في مبتدأ رحلته وناضب أعجف في منتهاها . ولطالما كانت النهر مؤشرا لليانع والأخضر والحالم والراسخ المستقر فمن بعده تبتدئ الصحراء . لولا النيل لما كانت مصر ولولا دجلة والفرات لما كانت بلاد الرافدين . ومن المؤسف ان يعتري النهر ما يعتري الإنسان من
تبدل ألوان وانطماس وانبتار واندراس .
مازلت اذكر عبارة وردت في احدى قصصي : ” الانهار كالبشر .. تبدأ نقية وتنتهي ملوثة !