23 ديسمبر، 2024 1:28 م

«شر البلية مايضحك»

«شر البلية مايضحك»

إن الأحداث والخطوب التي تفرض نفسها على أمة ما، أو تفرضها الأمة على نفسها أو على غرمائها من الأمم والشعوب الاخرى، تتحول فيما بعد إلى تاريخ يقرأ حاضرها ويجسد ماضيها، شاءت الأمة تلك أم ابت.

وأن التاريخ لايرحم الشعوب والحضارات والأمم والاشخاص إذا كان العار والشنئان جزءا من ذلك التاريخ وإن كان بمقدار حبة خردل، ويبقى أثره راسخا مهما تعرض لعمليات التدليس والتحريف والتزوير.

وبقراءة بسيطة لتاريخ العرب المعاصر والجديد كأمة، نجد أنهم في وضع مزري ومثير للشفقة والجدل، وهي شبيهة إلى حد ما بحالات الولادة والاحتضار، التي ينجم عنها في حال تفاقم واحدة من تلكم الأوضاع “الموت”، فالموت هو المصير المحتوم لتلك الأمة عند التفاقم.

ان العالم العربي هو الأكثر إنغلاقا وتشبثا بصورة الماضي خاصة إذا كان الماضي سياسيا أو اجتماعيا، ومااستجد من الأحداث في الماضي المعاصر على أنه تجديد، على شاكلة بما تسمى بأيام” الربيع العربي” ماهو الا نوع من أنواع الثورات المخملية التي تروم القضاء على الأنظمة الديكتاتورية المستبدة والمنتهية الصلاحية، وإبدالها بوجوه أخرى تستطيع أن تكمل المشوار والدور الذي سلكه اسلافهم، ولكن بطريقة مشبهة أخرى تنطلي على شعوب تلك الأمة، سعيا منها للوصول لحالة التغيير الذي صار حلما لها يراودها في كل منقلب، وكذلك التخلص من نير العبودية التي فرضت عليها من قبل الحكام، ولكن هذا المطلب سيكون عليها وبالا وصعب المنال طالما أن الأمور تسير بما لاتشتهي السفن، من حيث أن الأجندة العالمية والصهيونية هي التي خططت لذلك التغيير بالتنسيق مع أعراب العرب ومتأسلميهم، فباركوا وهللوا لهذا التغيير الذي لايعدو عن كونه حراكا غير مدروس وغير منظم من قبل الشعوب العربية، أي بدون دراسة ومعرفة مسبقة، “والمعرفة المسبقة تجنب المفاجأة” لذلك أخذها المآل بالوصول إلى حالة التخبط السياسي والمجتمعي، وستكون الغلبة بكل تأكيد لصالح الجهات والمؤسسات السياسية التي تبنت انبلاج ذلك المشروع، والذي كشف اللثام عن أنوف ووجوه تعكس واقع العقول التي عشعش الأستحمار في تفكيرها، والاستنعاج في سهولة أستدراجها و”قشمرتها” بما يشبه “قشمرة” الأطفال بقطعة حلوى قد تكون رخيصة الثمن وسيئة العواقب.

فبمجرد سماع كلمة ما إلا ودأبوا لتداولها، إذ، إذا صدقها أحدهم، هبوا جميعا لتصديقها وفق تأثيرات العقل الجمعي الذي تميزت يه أمة العرب عن باقي الأمم، إذ لو قال أحدهم وعلى سبيل المثال: أن الشيعة في العراق هم من أصول ” فرس مجوس” لصدقوه ايما تصديق، وهذا ماحدث فعلا، دون ادنى نقاش ولطبلوا لتعميمها وانتشارها بهذا العقل-أي الجمعي- وأضافوها فورا إلى قاموس ” اللستة” المتضمنة للمصطلحات النابزة ضد المذهب الشيعي؛ كإستعابة زواج المتعة، وقضية مصحف فاطمة، وتهمة سب الصحابة، وشبهة زيارة القبور…الخ، متناسين أن الكفر المتمثل بالمجوسية، والايمان المتمثل بالإسلام نقيضان لايجتمعان كالنار والماء.

هذا وعند سماعهم كذلك لكلمتي ” التغيير، وارحل” تمغنطوا وهاجوا دون معرفة حساب النتائج ودون اعتماد سياسة التخطيط المسبق ودون تأمين البديل، فعملوها على طريقة”الهوبزة أو الفوضى الغير خلاقة” فاسفر ذلك عن ولادة “الربيع العربي المخملي” الذي أنبلج عنه رؤية الخطوط العريضة لمصير العرب ومستقبلهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى العسكري، على المستوى الاقليمي والدولي والتي لاتؤدي إلا لخذلانهم واستهتار بعضهم بحق مواطنيهم وجيرانهم بالقتل والإستإساد ليثبتوا للناس وعلى الملأ أنهم من سنخ “الاعراب” ومن أيتام الحزب الأموي، وصفاتهم الحسد والكند والحنق والحقد والتكفير.

فعندما حصل التغيير الفعلي بهذا الربيع المزعوم، بدأ التنظير الغربي والصهيوني لوضع تحريف اتجاه مباديء الفرص التي جاء بها الربيع، فصودر التطبيع والتعاون والتعايش، وساد بدلا من ذلك ايقاظ موجات الفتن النائمة، وتحريك الإحن المستعمرة، وتهييج النعرات الطائفية والمذهبية المستورثة، التي نجم عنها التهجير والتقتيل والتفجير والإبادات الجماعية المتنوعة، والتي ربما أسست لها دول الاستكبار من أجل الحفاظ على أمن دويلة الكيان الصهيوني وديمومة وجودها على أرض فلسطين.

والمثير للجدل أن الربيع العربي لن يأتي بفصال متشابه أو نسق واحد متناظر لجميع الدول العربية التي تبنت التغيير، إنما جاء بفصال يختلف عن غيره باختلاف المعطيات من بلد لآخر، وخاص بكل بلد على حده وبحسب ملائمته للأوضاع السياسية والاجتماعية والجغرافية له، وهذي علامة من علامات القطب الواحد الذي تتزعمه أمريكا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ صارت الدول العربية وبعض الدول الاسلامية ضحية لهبوب رياح الاستفراد الغربي الأمريكي الصهيوني على هذه المنطقة.

وقبل هذا برز امراء الظلام في الادارة الأمريكية لتبني مهمة إشعال الحروب وانبثاقها من أمثال “ديك تشيني”و”رامس فيلد” في عهد بوش الأول، وكانت مهمتهم تنحصر باقناع تجار الحروب، ولوبيات الصناعات الحربية، لضرب افغانستان ومن ثم العراق، والقيام بعد ذلك ببث الفتن الداخلية في العراق لتمتد لدول الجوار سوريا ولبنان ومصر.

العراق وسوريا ولبنان ومصر، هو المثلث الذي يحيط بالكيان الصهيوني من جهة، وبالهلال الذي يحد شبه جزيرة الاعراب وكيانات دول الخليج من جهة أخرى، حتى تكون تلك الكيانات بالاضافة لإسرائيل هي الطرف المستفيد الوحيد من تأجيج الفتن والتداعيات في تلك الأمصار.

لكن عبقرية الأهداف الغربية والصهيونية لاتقف عند هذا الحد، ولاتستشطأ إلا مع بحر قراصنة جغرافية العرب، الذي يتحولون فيه إلى مراكب خاوية لا”نوخذة” تسوسها ولا “مجاذيف” تدفعها إلى بر الأمان وترسم لها خارطة طريق توصلها للضفة الاخرى.

ويبقى بعض العرب قابعون ومتقوقعون في عقلية الاعراب الكهوفية وفي عبقرية العقل الإستنقاعية القابلة للتأسن، فضلا عن سيادة العقل الجمعي المتصفة بالانفعالات الطائفية المطلقة للأحكام الجزافية المتسرعة والمتثرثرة التي تؤسس لزرع الكراهيات والإحن والاحقاد واستهلاك طاقات الأمة وتبديدها في أمور تافهة لاتؤدي بهم إلا لترسيخ حالات إستحمارهم وظاهرة إجترارهم للإفتراءات والمنابزات والمهاترات، مثلها في ذلك كمثل”المجترات”ممن خلق اللة من غير البشر.

إن حالة التموضع هذه الذي تعرض إليها العرب من جراء الواقع الانقلابي الذي فرضته عليهم الاعراب على اعقاب عصر صدر الإسلام، عرضت العرب كأمة لحالة مرضية مزمنة أفقدتهم ذاكرتهم الدينية والحضارية والتاريخية، وهيأت أرضيتهم لزراعة الأفكار الشاذة والمنحرفة، ولفظ الأفكار المنسجمة مع توجهات هذه الأمة التي جاء بها رسول الله صلوات الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.

 ووفق هذا المفهوم استحدثت عدة مرجعيات تمثل إسلام المارقين والقاسطين والمتأسلمين المتأسلفين ممن يعتقدوا بأفكار علوج ممن أفرختهم مرحلة الحكم الأموي من أمثال ابن تيمية شيخ إسلام المارقين، وأصبح أخلافه على “رأس المؤسسات الدينية القائمة بالافتاء وتعبئة المجاهدين الذين ينفذون عمليات الارهاب داخل حدود بلدهم وضد أبناء جلدتهم بذريعة الإنتقام من اسرائيل” بطريقة مضحكة، و”شر البلية مايضحك”.

 وبهذه الطريقة تكون وقد أسست الطرق الجهنمية لتفكيك العالم العربي حسب الخطط الموضوعة له في بداية الثمانينات من القرن المنصرم وكان من إماراتها انبثاق الحرب العبثية بين العراق وإيران، كبداية لمشروع تفكيك العراق مرورا بسيناريو احتلال الكويت واجهاض الانتفاضة الشعبانية المباركة، ووصولا لإحتلاله من قبل أمريكا وإنتهاءا بانسحابها منه، وارغامه على تطبيق نظام حكم من نمط خاص يأخذ على عاتقه باكمال عملية التفكيك وتفريخ التداعيات التي لاتجعل من العراق بلدا مستقرا ولا أن تقوم له قائمة بعد الآن.

 والاستراتيجية الاستكبارية لاتقف عند هذا الحد فحسب، بل امتدت أذرع أخطبوطها لتنفيذ مشاريع ومخططات تفكيك كاملة لسوريا ولبنان والسودان ومصر وليبيا وتونس واليمن، وستمتد لتفكيك الجزيرة العربية ودول الخليج العربي على المدى القريب عندما يجف عصير الحكام العرب ويجف شرفهم ودينهم، وتستنزف روحهم المعنوية والاخلاقية ومعايشهم ومصادر اموالهم المستقبلية ، ويضمحل دورهم في التنفيذ والتخريب والعبث في المنطقة، ويجف اسنادهم المباشر والغير مباشر لإسرائيل، وعندما ينضب دورهم كذلك في الخيانة والعمالة.

 قد يسبق ذلك المشروع، عمليات القضاء المبرم على أغلب المفكرين والعلماء العرب والمسلمين من دعاة التغيير والتنظير والتخطيط والتنوير والتمهيد للانقلابات والثورات، وسيكون ذلك بشتى الطرق الخبيثة، كطرق الاستقطاب والالتفاف والتلفيق والتدليس والتدنيس والتجنيس، والاحتواء عبر قنوات الاعلام الافتراضي ودوائر المخابرات، أو عن طريق التسقيط وإثارة الشبهات وايجاد البديل الروحي على شاكلة ابن تيمية وأخلافه من أمثال الظواهري وعرعور ومجموعة من علماء الاعراب بالافتاء على مشروعية الفتن وحلية قتل هؤلاء، وتعريضهم لمواجهة الموت الزؤام بالتفخيخ والاغتيال والسم الزعاف على يد الكلاب المحليين والدوليين.

 لكني قرأت: أن العرب دخلوا بفضل”البو عزيزي” إلى مرحلة مابعد التاريخ الإنساني، وهذا جزء من تفكير الربيعين من الطوائف الجهادية التكفيرية الذين يعتقدون بيقين غزو العالم، عبر تدمير المنطقة والفتك بأهلها بمساعدة الصليبيين وبتمويل شعب الله المختار “حنابلة نجد المتأسلمين”، ولايستثنى من ذلك من كان يدعمهم ثقافيا وسياسيا وأجتماعيا ولوجستيا.

 هكذا ستبدوا الشعوب العربية وبعض الدول الاسلامية مستقبلاا من أجل سعادة اسرائيل، وبات من المستحيل التخلص من هذه التبعية أو التقدم قليلا لمواكبة العالم المتحضر حتى “يلج الجمل في سم الخياط”.