18 ديسمبر، 2024 5:56 م

شريعتي ليس معصومًا …. قراءة متوازنة

شريعتي ليس معصومًا …. قراءة متوازنة

كم أحب هذه العبارة لأنها تجعلك في مواجهة تقييم الحقيقة بتجرد عن مسمياتها ، وفي نفس الوقت تنمي فيك قدرتك على إنصاف الآخرين من نفسك ، من حيث أن اختراق ملكة العصمة للآخرين بآرائك النقدية لايعني التعدي على شخصيتهم ،

وهذه أكبر مشكلة يقع فيها القاريء حينما ينطلق في تقييم الأفكار من منطلقات شخصية .

شريعتي منح القاريء الكريم فرصة كافيةً لتقييمه بقدر ما أثرى فكرنا بآرائه ، وبقدر انسجامنا أو عدم انسجامنا معه لايوجد عذر لقراءة فكر الرجل من خلف الكواليس ، كما أن هذا لا يعني الانسياق خلف كل ما يطرح من أفكار ،وإنما هي منهجية وسطية في القراءة ، نلمسها بوضوح في قول الإمام الحسن ( عليه السلام ) : (( دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك )) في ظل هذه النظرة التي تقيم الآخر باعتباره قابلا للجيد و الرديء في ما يطرح يحضر اختيار ثالث يدلنا عليه الإمام أن ما ينفعنا و ما يمكننا أن نوظفه في ارتقاء فكرنا نتمسك به و نتجاوز ما دون ذلك و نطرحه لا أن نقف عند هذه النقطة المشكوك فيها فنحرم أنفسنا ما ثبت لنا نفعه ، إنها نظرة عادلة متوازية في قراءتنا للفكر أيما كان توجهه ، كما أنها تتجاوز شخصنة الأفكار و تخلص نفسها للفكرة فحسب بغض النظر عن انتمائها و بيئتها ، وهذا عين ما عبر عنه الإمام الصادق ( عليه السلام ) حين قال : (( خذ الحكمة من أهل الباطل )) بمعنى لا يحملكم اختلافكم مع من تختلفون معه في المنهج أو العقيدة أو المبدأ حتى بأن تُحرَموا من منفعة لعلها تكون بين ثنايا هذه الأفكار أغفلتموها سهوا أو عن قصد ، هي إذن قراءة متوازية ترفض العصمة و الذوبان في الفكر وكذلك تأبى التفريط المطلق ، وهذا ما ينبغي أن ننتهجه في تعاملنا مع أفكار الدكتور علي شريعتي و غيره .

وقد وجدنا أن هناك من يوافقنا في هذه المنهجية من العلماء بما يؤيد هذا الطرح ومنهم سماحة الأستاذ حيدر حب الله الأستاذ في الحوزة العلمية حيث يقول في هذا الشأن :

(( اليوم نحن بحاجة إلى إعادة قراءة شريعتي ؛ لكن ليس لتوظيفه سياسيًا ضد أحد ، بل لاستخلاص العبر من تجربته في نقاط قوّتها و ضعفها ، و هذا ما يستدعي توازناً في مطالعة الرجل ، لا ينحو منحى التبجيل و لا يتجه ناحية التفسيق و التضليل ، علّنا بذلك – سيما مع تطور الدرس الديني اليوم – نستفيد من التراث بدل أن نستنسخه بحرفيته ))

مجلة نصوص معاصرة – العدد العاشر .

هناك من يوظف أفكار شريعتي التي قيلت في زمان و مكان ما ضد المؤسسة الدينية لينتقل بذلك إلى تسقيط شامل لها ليصفو له الجو و يتسيد الموقف ، وهذا برأيي القاصر إجراء غير صحيح فهناك من الجهود الطيبة ما ترفع لها القبعة و تتطأطىء لها الرؤوس إجلالا و إعظاما لهذا الإنتاج القيم طيلة ألف سنة ،كما أنه هذا التبجيل لا يعني بصحة كل ما يصدر منها ، لأن نقد شريعتي للمؤسسة الدينية آنذاك كونه لمس منها عدم قدرتها على التعاطي بواقعية مع حاجة الشباب إلى الدين الذي ينقذها من ظلم الشاه وإنما راحت تستغرق به في غياهب الغيب و المقامات النورانية بعيدا عن الحاجة الماسة إلى تفعيله في وعي الأمة ، والإسلام فيه من المقومات ما يؤيد ذلك لأنه دين الحياة ، أما إسقاط هذه التجربة على واقعنا المعاصر للنيل من جهة وإبعادها عن المعترك الحياتي فهذا توظيف سيء لأفكار شريعتي و هو ما نرفضه جملة و تفصيلا ، فالقراءة المتوازنة هي موضع اختبار لنفوسنا و عقولنا .

النموذج الثاني هو ما طرحه سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (( حيث دعا الشباب الرسالي إلى قراءة كتب المفكرين أمثال الشهيد شريعتي ومطهري والسيد محمد باقر الصدر و غيرهم من المفكرين لا ليستنسخوا أفكارهم و رؤاهم فإنهم كتبوا في زمان غير زماننا وإنما لكي نستفيد من مناهجهم في تشخيص المشكلات و علاجها )) من كلمة بعنوان توجيه إلى الشباب الرسالي ليأخذوا دورهم في العمل الرسالي – لقاء مع أهالي الشطرة .

وهنا تركز هذه القراءة المتوازية على المنهجية التي اتبعها شريعتي في تعاطيه مع المشاكل التي رميت في طريق الإسلام أكثر من تركيزه على نفس مفردات تلك الأفكار ، وملخص هذه المنهجية في أمرين :

الأول :إحياء الإسلام في النفوس ، ولعل طامتنا الكبرى اليوم أن جل الشبهات التي تثار على الإسلام تنطلق من عدم القدرة على التوفيق بين أطروحة الإسلام النظري و الإسلام العملي ، وحل هذه الإشكالية في القدرة على إقناع أبناء الإسلام أولا بتوافر العوامل التي تمكنه على تجاوز هذه الإشكالية عبر تطبيقه في الواقع ، وهذا ما فعله شريعتي فيحنما أثيرت الشبهات من قبل الشيوعيين و الماركسيين على الإسلام ألف كتاب (الإسلام و المذاهب الغربية ) و كتاب ( الإنسان بين الإسلام والماركسية ) حيث طرح فيه النقاط الجوهرية بين الرؤية الإنسانية في الإسلام و الرؤية المادية له عند الماركسية انتقدها انتقادا موضوعيا و كتاب ( العودة إلى الذات ) وهي الذات الإسلامية الأصيلة لا الذات المستغربة المنبهرة بكل ما يفد من الغرب ، و كتاب ( المنهج الصحيح للتعرف على الإسلام ) وغيرها ، و زاد من تأثير ما طرحه شريعتي في كتبه أنه واجه به جمهوره المتحمس و المتعطش لسماع كل جديد يعزز فيه الأمل بقدرة الإسلام على كل ما فيه خير لإسعاد الإنسان ولم يكتف بالتنظير فحسب .

الثاني : تحديد الوظائف و المسؤوليات : هنا يمهد شريعتي للتحول من التنظير إلى التطبيق بصورة أوضح، فلكي تزداد النفوس قناعة بالإسلام دينا مواكبا لكل العصور لابد أن يضع الحلول التي تعوق من تقدمه في إشكاليات جمة على مستوى إدارة الحياة و الاستيعاب و تقديم الحلول الناجعة ، وقوام الحل لهذه المشاكل هو تفعيل وظيفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في وعي الأمة ، وهذا الأمر لن يتم مالم يزداد الوعي بأهميتها و دورها ، وهنا راح شريعتي يؤلف ( مسؤولية المثقف ) ( مسؤولية المرأة ) ( أمي أبي نحن متهمون ) وغيرها من الكتب التي تندرج في هذا الإطار .

وهذا هو عين ما نحتاج إليه وهو أن نرتقي بوعي الأمة إلى الدرجة التي تحرص على دينها عن قناعة لا عن سذاجة و خرافة لكي لا تترك الإسلام وحيدا تحت أعذار واهية يعاني في أول منازلة له مع الاستبداد و الطبقية و الرجعية ، والطريق إلى هذا المضمار هو القراءة و المعرفة لا بمعنى التسليم بكل ما نقرأ و لا بمعنى رفض الفكر الآخر وإن كان صحيحا لأنه لا ينسجم مع متبنياتنا على الرغم من وجود أفكار صحيحة أخرى وإنما لنأخذ ما ينفعنا و ندع ما لا خير فيه تطبيقا لمقولة (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) وهذا هو منطق العقلاء .