حين وصلتني دعوة كريمة من مجلس كنائس الشرق الأوسط للمشاركة في طاولة مستديرة للحوار بعنوان “المساحات الدينية المشتركة في الشرق الأوسط”، بمناسبة عيد البشارة، الذي اعتمد عيدًا رسميًا في لبنان منذ العام 2010 (للمسيحيين والمسلمين)، وبمشاركة نوعية من عدد من البطاركة والمطارنة والأساقفة وعلماء الدين المسلمين والدروز والصوفيين، إضافة إلى شخصيات فكرية وثقافية وباحثين مدنيين بارزين، تساءلت مع نفسي، أثمة نموذج شرق أوسطي راهن للحياة المشتركة على صعيد مجتمعي؟ أم أن النموذج الذي نتحدّث عنه هو في الماضي وإن كان من حقنا أن نتطلع إلى نموذج مستقبلي؟ الماضي مضى ولا يمكن إعادته، ولكن يمكن استعادته، بمعنى التفكّر والتبصّر وأخذ العبر والدروس منه، لأن الأمر يتعلّق بالمعنى والدلالة.
والمقصود بالمعنى قبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية، في إطار المشترك الإنساني، أما الدلالة فهي تنطلق من المعايير الإنسانية كذلك، تلك التي تتجسّد في في مفهوم المواطنة المتساوية والمتكافئة في الدولة العصرية.
وإذا كان ثمة هويّة جامعة وموحّدة، فإن ثمة هويّات فرعية لا بدّ من الإقرار بحقها في الوجود والتطوّر على قدم المساواة مع الهويّات الأخرى، سواء كانت دينية أم إثنية أم غيرها، وبغضّ النظر عن حجمها وعددها، لأن عدم الاعتراف بالهويّات الفرعية يؤدي إلى اندلاع صراعات ونزاعات، بعضها يتّخذ طابعًا مسلحًا على المستويينالمحلي والدولي، بفعل نزعات التسيّد والهيمنة، ودائمًا ما تحاول القوى المتنفذة بسط سيطرتها على الآخر بحجج ومسوّغات مختلفة، فتارة بزعم “الأغلبية”، وأخرى بحجّة “امتلاك الحقيقة”، وثالثة “ادعاء الأفضليات”، والهدف فرض الاستتباع والخضوع على الآخر.
وفي منطقتنا نشأت ثلاث ديانات أساسية ، ونمت وترعرعت وانتشرت منها، وبالتالي فإنها أديان مشرقية بالأساس، وأقصد بذلك اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عَرفت هذه البلاد تاريخيًا نوعًا من التعايش والقبول والتسامح والتفاعل، وإن شهدت كذلك صراعات ونزاعات، بعضها كان دمويًا، لكنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في أوروبا من حروب الطوائف، يكفي أن نذكر الصراع اللوثري – الكاثوليكي، الذي استمر 5 قرون، حتى تم ّالاتفاق على تسويته في العام 2016.
وكان المطران منيب يونان، قد حدّثني قائلًا: لقد وضعنا الخلافات والإختلافات التي تعود إلى القرون الوسطى وراء ظهورنا، وتركنا أمرها للدراسات الفقهيّة المستفيضة للّاهوتيين من الفريقين ومن يريد أن يدلو بدلوه فيها، فقلت في خلوتي، ألا يستقيم مثل هذا الحل السحري البسيط جدًا لوضع حد للخلافات بين السنة والشيعة؟ وهو خلاف لا معنى له، مستمر منذ 14 قرنًا، ثم ألا يمكن وضع حد للتمييز بحق المسيحيين على أساس المواطنة الكاملة والتامة، بكلّ أركانها، ولاسيّما الحريّة، وخصوصًا حريّة التعبير والاعتقاد والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة؟ وتحت قاعدة “شركاء في الوطن ومشاركون باتخاذ القرار”، لاسيّما في الدول المتعددة الثقافات.
ولعلّ وثيقة الأخوّة الإنسانية،التي وقّعها في أبو ظبي شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب وقداسة البابا فرنسيس في 4 شباط / فبراير 2019 ، والتي اعتُبرت نداءً لكل ضمير حي بنبذ العنف البغيض والتطرف الأعمى، وهي “دعوة للمصالحة والتآخي“ بينأتباع جميع الأديان وبين عموم البشر، يمكن أن تكون خلفية فكرية لذلك.
منذ فترة ليست بالقصيرة دعوت إلى ويستفاليا عربية ومشرقية، ومعاهدة ويستفاليا هي التي وضعت حدًا لحرب الثلاثين عامًا والتي دامت من 1618 لغاية 1648، حيث تم توقيع صلح أو معاهدة ويستفاليا التي نصّت على الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (المقاطعات المتفرقة حينها) وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي، والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية، وإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء.
هل يمكن التفكير كنخب ثقافية مدنية ودينية في حوار يشمل أتباع الديانات؟ ولاسيّما المسلمين والمسيحيين، وقبل ذلك أتباع الطوائف المختلفة في إطار الأمم الأربعة التي تعيش في هذه المنطقة وهم الترك والفرس والكرد والعرب، دون أن ننسى الأمم الأخرى، وكمدخل للحوار يمكن البدء بمثقفين من تلك الأمم، وكان هذا أحد مساعي سمو الأمير الحسن بن طلال بتنظيم حوار العام 2018، أطلق عليه “حوار أعمدة الأمة الأربعة“، ضم نخبًا من هذه القوميات، امتدادًا لحوارات أسبق.
لقد كان ثمن تفريغ المنطقة من مجاميع ثقافية دينية وإثنية فادحًا، وهو ما حصل لليهود في المشرق والمغرب، إضافة إلى تهجير المسيحيين واستهدافهم طيلة العقود الأربعة ونيّف المنصرمة ، وكذلك استهداف الإيزيديين، وخصوصًا من جانب تنظيم داعش الإرهابي، وكذلك استهداف الصابئة المندائيين، وذلك كي يقال أن العرب والمسلمين ليس بإمكانهم التعايش مع الآخر، وهو ما عزفت عليه “إسرائيل”، منذ تأسيسها، التي زعمت أن صراعها مع العرب هو صراع ديني إقصائي وإلغائي حول قيم السماء وليس حول اغتصاب الحقوق واحتلال الأرض،وإجلاء سكان البلاد الأصليين، وذلك ما دأبت عليه الرواية الصهيونية ، التي لا بدّ من مواجهتها ودحضها بالأفعال وليس بالأقوال.
هل يصبح طريق ويستفاليا العربية والمشرقية سالكًا؟ إذًا لا بدّ من فك الاشتباكات وإنهاء بؤر التوتر في المنطقة عبر الحوار، لبناء سلام دائم وتفاهم مستمر، وفقًا للمشترك الإنساني في كلّ بلد وعلى المستوى الإقليمي، وذلك في إطار المصالح المتبادلة واحترام الخصوصيات وعدم التدخّل بالشؤون الداخلية، والبحث عن سُبل توسيع الحياة المشتركة، وتلك على ما أعتقد رسالة مجلس كنائس الشرق الأوسط.